صراع الدعوىّ والسياسىّ
آخر تحديث GMT19:17:04
 عمان اليوم -

صراع الدعوىّ والسياسىّ

 عمان اليوم -

 عمان اليوم - صراع الدعوىّ والسياسىّ

عمرو الشوبكي

لم يتوقع المتابعون للتجربة التركية اندلاع هذا الصراع العلنى بين جماعة فتح الله جولن الدينية ورئيس الوزراء رجب طيب أردوجان، فالجماعة الدعوية الكبرى كانت على مدار 10 سنوات الداعم الأكبر لأردوجان حتى قرر الأخير إغلاق مدارسها، وملاحقة عدد من رموزها، واتهامهم بتنفيذ أجندة خارجية، وأن الجماعة تمثل دولة فوق الدولة، وترغب أن تحكم البلاد من وراء الستار دون أن تتحمل أى ثمن سياسى. أما جماعة جولن فقد رفضت هذه الاتهامات، ووصف فتح الله جولن- زعيمها- رئيس الوزراء فى مقال كتبه يوم الاثنين الماضى فى صحيفة «فاينانشيال تايمز» قبضة أردوجان على السلطة بـ«قبضة الجيش عندما كان يهيمن على البلاد»، وحذر من أن الإصلاحات السياسية والاقتصادية التى تحققت على مدى عشر سنوات «عُرضة للخطر». واعتبر أن أردوجان خسر الثقة فى الداخل والخارج بسبب الإجراءات التى يتخذها مثل القيود على حرية الإنترنت، وسيطرة الحكومة المتزايدة على المحاكم، ومنح أجهزة الأمن سلطات أكبر. وأضاف أن هناك «مجموعة صغيرة داخل الفرع التنفيذى بالحكومة تمنع تقدم البلاد وتضعه كرهينة». المواجهة العلنية بين الجماعة الدعوية والحزب السياسى جاءت بعد سنوات طويلة من الدعم المتبادل، فجماعة فتح الله جولن التى انتشرت فى ربوع تركيا وازدهر نشاطها فى عهد أردوجان، ركزت على التعليم والأعمال الخيرية والرسائل التربوية، وبنت آلاف المدارس والمعاهد والجامعات (الفاتح وغيرها)، وقدمت قيماً دينية حديثة ومستنيرة تتحدث عن التعايش مع الثقافة الغربية وحوار الأديان.. وغيرهما. وقد اعتبر الكثيرون أن نجاح أردوجان فى الانتخابات يرجع بشكل أساسى لدعم جولن وجماعته له، وأن هذا الدعم مثل الصورة الحديثةــ التى سبق أن تحدثنا عنها مراراً وتكراراً فى الحالة المصريةــ حول ضرورة الفصل بين المجالين الدعوى والحزبى، فى نفس الوقت فإن تخوف بعض القوى المدنية الدائم من أن هذا الفصل ما هو إلا لعبة توزيع أدوار، ثبت فى الحالة التركية أنه غير صحيح، لأن الخلاف بين الاثنين صحيح وعميق، ووجود هذا الفصل منذ البداية بين حزب أردوجان وجماعة فتح الله جولن جعل الخلاف بينهما فى النور، وقضى على مقولة «الأخوة الدائمة» بين الحزب السياسى والجماعة الدعوية، فطالما كانت العلاقة بينهما صحية منذ البداية، وقائمة على الفصل بين المجالين، فإن الخلاف بينهما سيكون صحياً أيضاً مهما كانت حدته. إن الطبيعة المختلفة لبنية المشروع السياسى والدعوى تجعل هناك استحالة فى جمعهما فى تنظيم واحد، كما فعل الإخوان، فالجماعة الدعوية التى ترتكز فى مشروعها على الدين إذا ربطتها بمشروع حزبى وسياسى فإنه يحوّل الكادر الدينى/ الحزبى إلى محارب فى سبيل الجماعة فى لحظة الخلاف، لأنه يشعر بأنه فوق الجميع. فوفق تربيته العقائدية سيعتبر الخلاف فى السياسة خلافاً مع الدين، وأن إسقاط حكمه هو إسقاط لشرع الله، وتصبح جماعة الإخوان التى تضم الدعوى والحزبى معاً كياناً مهمة أعضائه الحفاظ على بقائه حتى لو كان الثمن فناء الوطن والمواطنين. إن صيغة وجود أحزاب سياسية مدعومة من جماعات مدنية ودينية موجودة فى كل بلاد العالم، فكثير من الجماعات الدينية المسيحية تدعم الجمهوريين فى أمريكا، وكثير منها تدعم الأحزاب اليمينية والمحافظة فى أوروبا وأمريكا الجنوبية، تماماً مثلما اعتاد العديد من الجماعات الحقوقية والمنظمات المدنية أن يدعم الديمقراطيين فى أمريكا وأحزاب اليسار والأحزاب الليبرالية فى أوروبا. وجود شبكات مصالح وجماعات ضغط ورجال أعمال وجماعات دينية تدعم أحزاباً سياسية- أمر موجود فى الدنيا كلها وينظمه القانون والدستور، أما وجود جماعة دينية سرية ترفض أن تقنن وضعها، وأن تحترم قوانين الدولة الوطنية التى تعمل فيها، وتُخرج من جسدها ما سمته «ذراعاً سياسية»، وتصبح الجماعة الدينية والحزب السياسى شيئاً واحداً مثلما فعل الإخوان، فإن النتيجة تصبح هى الفارق بين ما جرى فى مصر وتركيا، ففى الأولى الفشل كانت نتيجته دماء وعنفاً وإرهاباً وآلاف القتلى، وفى تركيا تحوَّل الخلاف إلى تلاسن وصراع سياسى سيحسمه صندوق الانتخابات هذا العام. إن ما كتبته على مدار عشرين عاماً عن جماعات الإسلام السياسى (الدراسة الأولى فى التقرير الاستراتيجى العربى الصادر عن مركز دراسات الأهرام فى 1994) حملت عنوان «الحركة الإسلامية بين صعوبة الدمج واستحالة الاستئصال»، و«إسلاميون وديمقراطيون»، و«أزمة الإخوان المسلمين»، و«مستقبل الإخوان المسلمين»، و«الإخوان المسلمون من الجذور إلى اليوم» (صادر بالفرنسية 2009 عن دار كارتلا)- كل ذلك كان فى اتجاه ضرورة الفصل بين بنية ونشاط الجماعة الدعوية والحزب أو التنظيم السياسى، واعتبرت ذلك أحد الشروط الرئيسية لإحداث «دمج آمن» للتيارات الإسلامية فى العملية السياسية. والحقيقة أن فلسفة الدمج الآمن تقوم على الاعتراف بأن التيارات الإسلامية، وفى القلب منها جماعة الإخوان المسلمين، لديها مشكلة فى بنيتها الأيديولوجية، فهى ليست مجرد حزب سياسى راديكالى أو ثورى يتم استيعابه فى العملية الديمقراطية كما جرى مع أحزاب يسارية وشيوعية فى بلاد ديمقراطية كثيرة، إنما هى جماعة دينية تقوم على السمع والطاعة ولديها بنية تنظيمية خاصة لا تسمح لأى شخص بأن يكون عضواً بها إلا بعد التزامه ببرامج التربية العقائدية المتدرجة داخل الجماعة، وتنقله من عضو محب أو أخ منتسب إلى عضو عامل منتظم وملتزم بالسمع والطاعة (يقدرون بحوالى 70 ألف عضو، وهناك تقديرات أخرى توصلهم بحد أقصى إلى ما يقرب من مائة ألف عضو عامل). ثقافة الجماعة الدينية غير ثقافة الحزب السياسى، والخلاف الحاد فى تركيا الآن بين الجماعة الدينية والحزب الحاكم يدل على أن هناك فارقاً بين أن تكون جزءاً من جماعة مؤيدة لحزب سياسى، وأن تكون ذراعاً سياسية له، وأن يكون الاثنان جزءاً من بنية تنظيمية واحدة، صحيح أن هناك فرقاً بين خطاب جماعة فتح الله جولن والإخوان من زاوية استنارة الأول وانغلاق الثانى، إلا أن الفارق الأكبر يكمن فى انفصال البنيتين، وبالتالى فإن الخلاف بين الاثنين أمر وارد وطبيعى، وهو لم يكن مطروحاً فى الحالة الإخوانية التى تتفاخر بأنها تقف على قلب رجل واحد خلف الجماعة التى وضعتها فى مرتبة أعلى من الشعب والدولة والوطن. تجربة تركيا تقول إن الأساس الصحى والقانونى (حتى لو لم يكن ديمقراطياً بشكل كامل) الذى سمح لأردوجان وحزبه بأن يصل للسلطة هو نفسه الذى جعل الخلاف بين الجماعة الدعوية والحزب السياسى أمراً وارداً وطبيعياً مهما كانت حدته، أما حين يتصور البعض بالذراع أو الشطارة أننا يمكن أن نبنى فى تنظيم واحد: حزباً سياسياً وجماعة دينية، ولا نتعظ من 85 عاماً من الفشل والمواجهة مع كل النظم السياسية، فإن النتيجة ستكون فشلاً فى تحقيق النجاح وإدارة الخسارة أيضاً كما فى مصر، ونجاحاً ولو فى إدارة الخلاف كما فى تركيا.

omantoday

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

صراع الدعوىّ والسياسىّ صراع الدعوىّ والسياسىّ



GMT 20:14 2024 الأربعاء ,13 تشرين الثاني / نوفمبر

التوافق بين الأبراج والشهور الميلادية والهجرية

GMT 20:15 2024 الأحد ,10 تشرين الثاني / نوفمبر

توقعات الأبراج اليوم الأحد 10 نوفمبر / تشرين الثاني 2024

GMT 20:13 2024 الأحد ,10 تشرين الثاني / نوفمبر

الحوت والحمل والأسد من الأبراج الأكثر سعادة

GMT 19:45 2024 السبت ,19 تشرين الأول / أكتوبر

توقعات برج العقرب لشهر أكتوبر 2024

GMT 13:51 2024 الأحد ,13 تشرين الأول / أكتوبر

توقعات برج الميزان لشهر أكتوبر / تشرين الأول 2024

GMT 08:49 2024 الجمعة ,11 تشرين الأول / أكتوبر

توقعات برج العذراء لشهر أكتوبر 2024

GMT 17:16 2024 الإثنين ,07 تشرين الأول / أكتوبر

أبرز التوقعات لبرج الأسد في شهر أكتوبر 2024

GMT 09:45 2024 السبت ,14 أيلول / سبتمبر

توقعات برج الجدي لشهر سبتمبر

إطلالات أروى جودة في 2024 بتصاميم معاصرة وراقية

القاهرة - عمان اليوم

GMT 18:42 2024 الجمعة ,13 كانون الأول / ديسمبر

أفكار لملابس تناسب شتاء 2025
 عمان اليوم - أفكار لملابس تناسب شتاء 2025

GMT 13:53 2024 الثلاثاء ,17 كانون الأول / ديسمبر

مدينة العلا السعودية كنزاً أثرياً وطبيعياً يجذب السائحين
 عمان اليوم - مدينة العلا السعودية كنزاً أثرياً وطبيعياً يجذب السائحين

GMT 13:39 2024 الثلاثاء ,17 كانون الأول / ديسمبر

دليل لاختيار أقمشة وسائد الأرائك وعددها المناسب وألوانها
 عمان اليوم - دليل لاختيار أقمشة وسائد الأرائك وعددها المناسب وألوانها

GMT 13:56 2024 الثلاثاء ,17 كانون الأول / ديسمبر

نصائح سهلة للتخلص من الدهون خلال فصل الشتاء

GMT 20:41 2020 السبت ,05 كانون الأول / ديسمبر

يوم مميز للنقاشات والاتصالات والأعمال

GMT 17:31 2020 الجمعة ,28 شباط / فبراير

يولد بعض الجدل مع أحد الزملاء أو أحد المقربين

GMT 14:50 2019 الثلاثاء ,02 إبريل / نيسان

حافظ على رباطة جأشك حتى لو تعرضت للاستفزاز

GMT 06:18 2019 الإثنين ,01 تموز / يوليو

تنتظرك أحدث سعيدة خلال هذا الشهر

GMT 22:59 2019 الأحد ,15 أيلول / سبتمبر

اهتمامات الصحف الليبية الأحد

GMT 12:27 2019 الخميس ,05 أيلول / سبتمبر

السعودية تستضيف نزال الملاكمة الأهم هذا العام
 
syria-24

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

omantoday Omantoday Omantoday Omantoday
omantoday omantoday omantoday
omantoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
oman, Arab, Arab