فى ذكرى النكبة وأساطير بيع الأرض و«المعجزة» الصهيونية

فى ذكرى النكبة وأساطير بيع الأرض و«المعجزة» الصهيونية

فى ذكرى النكبة وأساطير بيع الأرض و«المعجزة» الصهيونية

 عمان اليوم -

فى ذكرى النكبة وأساطير بيع الأرض و«المعجزة» الصهيونية

أحمد السيد النجار

كلما حلت ذكرى الاغتصاب الصهيونى لفلسطين، تتداعى للذاكرة العربية عموما والمصرية خصوصا صور فلسطين الخاضعة للاحتلال أو الانتداب البريطانى وهو يمرر جحافل المغتصبين من كل جنسيات الأرض لأراضيها لا يجمعهم سوى الحلم الصهيونى باغتصاب فلسطين ويمنحهم الأراضى العامة وكل أشكال المساعدات بالتوافق والمساندة من الولايات المتحدة والغرب عموما، ويسمح لهم بالحصول على أكثر الأسلحة تقدما وصناعتها وتكوين عصابات إجرامية لترويع وطرد العرب وارتكاب المذابح المروعة ضدهم.
وتتداعى للذاكرة أيضا أساطير صهيونية وغربية حول التفوق الصهيونى الذى صنع دولة متقدمة فى منطقة نامية، والأسطورة الأكثر كذبا ودناءة حول بيع الفلسطينيين لأرضهم، وكأن الصهاينة أقاموا دولة إسرائيل على أرض اشتروها، وليس من خلال اغتصاب أرض ودولة وحقوق شعب آخر، حولوا جزءا كبيرا منه إلى مشردين فى أراضيهم أو فى دول الجوار العربى والعالم عموما.
ورغم أن الدول العربية قدمت التنازل تلو الآخر فى محاولة للتعامل مع الأمر الواقع الاستعمارى وبناء سلام قائم على التعايش والحفاظ على ما تبقى للشعب الفلسطينى من حقوق بعد النكبة، فإن السلطات الإسرائيلية مارست على مدار ربع قرن من المفاوضات منذ بداية تسعينيات القرن العشرين، حالة من المراوغة والهروب من لحظة الحقيقة التى تقتضى إما القبول بدولة ديمقراطية واحدة من البحر إلى النهر لكل مواطنيها على قدم المساواة دون أى تمييز دينى أو عنصري، وإنهاء الاحتلال الصهيونى للجولان السورى المحتل، أو القبول بدولة فلسطينية مستقلة فى الضفة الغربية وقطاع غزة وفقا لقرار الأمم المتحدة لتقسيم فلسطين، والذى تم التنازل عنه عربيا لصالح حدود ما قبل عدوان يونيو 1967. لكن السلطات الإسرائيلية لم تقبل هذا أو ذاك واضعة المنطقة فى حالة مستمرة من التوتر فى ظل المنطق الاستعمارى الذى تتعامل به مع احتلالها للأراضى العربية الفلسطينية والسورية، وعجزها عن إدراك حقائق الواقع ومتطلبات بناء تسوية سياسية قائمة على الحقوق وقابلة للاستمرار.
وبعيدا عن حقائق الواقع الراهن، فإنه من المهم تناول أكذوبة بيع الفلسطينيين لأرضهم، ودور المساعدات الخارجية فى بناء الكيان الصهيونى فى فلسطين وتحويله لدولة صناعية أقرب ما تكون إلى دولة »تسليم مفتاح«، حتى لو كانت تملك فى الوقت الراهن ركائز مهمة للقوة العسكرية والصناعية، وهو الواقع الذى يفرض على مصر والدول العربية أن تعمل على تحقيق التطور الاقتصادى كأساس لقوتها الشاملة وللتفوق فى المباراة الاقتصادية مع دول الجوار الجغرافى للوطن العربى، كأساس للقدرة على ضمان أمن الدول العربية.
أكاذيب بيع الفلسطينيين لأرضهم
رددت آلة الإعلام الصهيونية لوقت طويل أنها اشترت الأرض من الفلسطينيين، وللأسف ردد جزء من الآلة الإعلامية العربية هذه المقولة احيانا بالذات كلما تصاعدت الخلافات بين الدول العربية بشأن الموقف من الدولة الصهيونية ومن تفاصيل الصراع العربي-الإسرائيلي، حيث يبدأ الحديث الدعائى وترديد الأكاذيب بالتصريح أو بالإيحاء، أن الفلسطينيين هم الذين باعوا أرضهم لليهود الذين أقاموا عليها دولة إسرائيل، ولم يقلل من فداحة جرم ترديد هذه الأكاذيب الصهيونية، أن البعض كان يشير إلى حدوث ذلك تحت تهديد الإرهاب الصهيوني.
لكن الحقيقة مغايرة تماما لهذا الادعاء، فقد كانت فلسطين خاضعة لنير الاحتلال العثمانى الذى يعد سببا رئيسيا فى تخلف البلدان العربية وبالذات مصر وبلدان الشام. وكان الأوروبيون والأتراك لهم الحق فى تملك الأراضى الزراعية وغير الزراعية فى البلدان العربية التى تحتلها تركيا العثمانية بعد صدور الفرمان العثمانى الذى يعطيهم هذا الحق فى عام 1876. ونتيجة انتشار المرابين الأوروبيين وبصفة خاصة اليهود فى البلدان العربية الخاضعة للاحتلال العثماني، فإن رهن الأراضى الزراعية ثم بيعها للأجانب بعد الفشل فى سداد الديون، قد توسع بشكل غير عادى نتيجة الإنفاق الترفى السفيه لجانب مهم من طبقة كبار الملاك الزراعيين، وأيضا نتيجة الظروف بالغة الصعوبة التى كان الفلاحون الصغار والمتوسطون يعيشون فيها والتى كانت تضطرهم للاقتراض أو رهن أراضيهم تحت وطأة اضطراب أحوال الزراعة بشكل تابع للطقس أو لمستوى الفيضان أو الجفاف، وأيضا نتيجة الضرائب المفروضة عليهم، أو اضطراب أسعار الحاصلات الزراعية التصديرية، أو نتيجة لتعرض محاصيلهم للحرق والإتلاف من أى طرف.
وفى ظل هذه الظروف، فإنه فى مصر كبرى الدول العربية، بلغت ملكيات الأجانب من الأراضى الزراعية نحو 713.1 ألف فدان فى عام 1917، وهى توازى نحو 3 ملايين دونم (الدونم هو وحدة مساحة الأرض فى فلسطين والأردن ويساوى 1000 متر مربع). كما كان هناك فى مصر فى عام 1930 نحو 3.4 مليون فدان، أى نحو 14.3 مليون دونم، مرهونة للبنوك العقارية والزراعية وبنوك الأراضي، وكان جانب كبير منها مرهونا للأجانب، ولولا أن قانون الخمسة أفدنة الذى صدر عام 1913 كان يحظر الحجز على الملكيات الزراعية التى تقل عن 5 أفدنة، وعلى أراضى الوقف أيضا، لكان جانب كبير من أرض مصر قد خضع للحجز والبيع. ولم تنته هذه الدائرة الجهنمية من نهب الأجانب لمصر فى هذا المجال إلا بصدور قانون تحريم بيع الأراضى الزراعية للأجانب عام 1951، ثم استقلال مصر الحقيقى بعد عام 1952وما تلاه من إجلاء القوات البريطانية عن مصر وبدء عصر الاستقلال الوطنى فى ظل حكم الزعيم الراحل جمال عبد الناصر.
ومن المؤكد أن أى بلد خاضع لاحتلال أجنبى ولا يوجد به قانون لمنع بيع الأراضى للأجانب، يمكن أن يتعرض لاستنزاف أرضه إذا عرض الأجانب من أجل شراء هذه الأرض، أسعارا عالية بدرجة مبالغ فيها تتجاوز كثيرا أى عائد يمكن أن تدره الأرض. وفى هذه الحالة يكون الهدف من عملية الشراء، هو الوجود والسيطرة. لكن حتى فى هذه الحالة فإن عمليات بيع الأرض يكون لها سقف لا تتجاوزه، لأنه عندما يتزايد وجود الأجانب ويستشعر سكان البلد أن ملكيتهم لبلدهم مهددة، فإن عمليات البيع تتوقف لأسباب سياسية-اجتماعية، وتتحول إلى قضية وطنية.
وهذه المقدمة العامة ضرورية لإدراك ما جرى فى فلسطين المحتلة، ولمعرفة هل أقيمت دولة إسرائيل على أراض اشترتها، أم على أراض اغتصبتها؟ وإذا كانت قد اشترت أى أراض فمن الذى باعها لها؟
والحقيقة أنه عندما بدأت العملية الكبرى لاغتصاب فلسطين ببدء الهجرة اليهودية فى عام 1904 بشكل واسع النطاق يتجاوز هجرة جماعات «البيلو» من المتدينين التى بدأت فى ثمانينيات القرن التاسع عشر، كانت فلسطين بلدا خاضعا مثل العديد من الدول العربية للاحتلال العثمانى الذى يسمح بملكية الأوروبيين للأراضى فى البلدان التابعة لتركيا العثمانية. وخلال الفترة من عام 1904-1914 هاجر إلى فلسطين نحو40 ألف يهودى استقر بعضهم فى المدن الفلسطينية ، بينما استقر ربعهم فى 47 مستعمرة اقيمت على مساحة 420 ألف دونم (نحو 100 ألف فدان) تم شراؤها بالأساس من مالكين عرب غير فلسطينيين.
وقد مول شراء معظمها البارون اليهودى أدموند دى روتشيلد، وشكلت تلك المساحة نواة الاقتصاد الزراعى اليهودى فى فلسطين. وقد توسع ذلك الاقتصاد بشكل سريع مع قدوم موجات جديدة من المهاجرين فى ظل الانتداب البريطاني، مع منح سلطات الانتداب مساحات من الأراضى العامة للصهاينة، وأيضا مع عمليات شراء اليهود للأراضى الزراعية بصورة أساسية من المالكين العرب غير الفلسطينيين أو من المالكين الفلسطينيين غير المقيمين، بإغراءات المال أو تحت التهديد أو بسبب المذابح الصهيونية ضد الفلسطينيين العرب التى روعت البعض منهم ودفعتهم لبيع أراضيهم والنجاة بأنفسهم وأسرهم. ورغم كل عمليات الشراء، فإن ملكيات اليهود من الأراضى الزراعية الفلسطينية لم تتجاوز 1.6 مليون دونم (نحو 380 ألف فدان)، عند إعلان إنشاء دولة إسرائيل عام 1948، وهى مساحة كانت توازى نحو 11.4% فقط من إجمالى مساحة الأراضى الزراعية فى فلسطين والبالغة 14.1 مليون دونم من أصل مساحة الدولة كلها البالغة 26.2 مليون دونم، وهذه النسبة لملكية الأجانب للأراضى الزراعية فى فلسطين كانت تقل عن نسبة ملكية الأجانب من الأراضى الزراعية فى مصر، والتى كانت نحو 13% عام 1917.
أما الغنيمة الكبرى فقد اغتصبها الصهاينة أثناء حرب الاغتصاب عام 1948، حيث تمكنت إسرائيل من السيطرة على 6.6 مليون دونم جديدة من الأراضى الزراعية الفلسطينية فيما بين منتصف مايو 1948حينما أعلنت الدولة ونشبت الحرب، وبين ربيع عام 1949 عندما أعلنت الهدنة، وذلك بالإضافة إلى نحو 1.6 مليون دونم من الأراضى الزراعية كانت بحوزتها، وبذلك ارتفع نصيب إسرائيل من الأراضى الزراعية فى فلسطين كلها من البحر إلى النهر إلى 58.2% عند إعلان الهدنة عام 1949.
وذلك يعنى بوضوح أن الصهاينة لم يشتروا فلسطين بل اغتصبوها فى حرب عام 1948 وما سبقها من اعتداءات على الفلسطينيين ومن ارتكاب المذابح ضدهم، وهذه الحقائق قاطعة وكافية لنسف الأكذوبة التى يروجها بعض الصهاينة ويرددها البعض عن عدم علم أو سوء قصد.
وحتى بالنسبة للأراضى التى حصل عليها الصهاينة قبل حرب الاغتصاب، فإن أغلبها أراض باعتها أو منحتها لهم سلطات الانتداب البريطانية، أو باعها الملاك غير الفلسطينيين أو الفلسطينيون الغائبون. وتشير المصادر الموثقة إلى أن هناك نحو 444.1 ألف دونم تم بيعها بين عامى 1936 ، 1945 عبر مبيعات لم تسجل فى سجلات الملكية حتى نهاية عهد الانتداب البريطاني، وهى على الأرجح مبيعات أو منح من سلطة الانتداب البريطانية. كما باعت حكومة الانتداب والمؤسسات الدينية والشركات الأجنبية 91 ألف دونم لليهود بصورة رسمية. كما باع الملاك اللبنانيون أراضى زراعية فلسطينية كانوا يملكونها وتبلغ مساحتها 388.8 ألف دونم، منها 240 ألف دونم باعتها عائلة سرسق اللبنانية وحدها وأدت إلى تشريد عدد كبير من العائلات الفلسطينية التى تنتمى لعرب الرمل التى كانت تضع يدها على أراضى الغور التابعة لحيفا. كما باع كبار الملاك الفلسطينيين غير المقيمين أراضى مساحتها 359 ألف دونم، وباع كبار الملاك الفلسطينيين المقيمين نحو 167.8 ألف دونم، فى حين باع صغار الملاك الفلسطينيين نحو 64.2 ألف دونم، وباع الملاك السوريون نحو 56.5 ألف دونم. ، فضلا عن مبيعات هامشية بلغت 8 آلاف دونم باعها ملاك مصريون، و 8 آلاف دونم باعها ملاك إيرانيون.
وفضلا عن هذه الأراضى الزراعية المستغلة اقتصاديا ، سيطرت إسرائيل على النقب فى خضم حرب الاغتصاب عام 1948 وإضافة لكل ذلك فإنها سيطرت على الموارد المائية فى فلسطين المحتلة عام 1948 وتحكمت فى توزيعها بشكل كامل واستغلتها لتطوير اقتصادها الزراعى كما أنها استولت خلال عدوان 1967 على الجزء الباقى من فلسطين (الضفة الغربية وقطاع غزة)، وقامت منذ ذلك الحين وحتى الآن باغتصاب أراض فلسطينية عامة والكثير من الأراضى الخاصة، وأقامت عليها مستعمرات إسرائيلية ضمن استراتيجيتها لاستكمال اغتصاب فلسطين.
«معجزة» اقتصادية «تسليم مفتاح»
يحاول الإعلام الغربى خلق صورة لإسرائيل وكأنها معجزة اقتصادية فى منطقة نامية، ولا مانع من إضفاء صفات عنصرية وطائفية تبرر هذا »التفوق«. والحقيقة أن المساعدات الخارجية قامت بدور حاسم فى إنشاء إسرائيل عبر تمويل بناء الاقتصاد الصهيوني، وتمويل استيعاب المهاجرين اليهود الى فلسطين الذين شكلوا أساس إنشاء الدولة بعد ذلك، وأيضا عبر تمويل تأسيس الجيش الإسرائيلى وتسليحه. وبعد إنشاء إسرائيل قامت المساعدات الخارجية بدور حاسم فى تمويل تطوير وتنويع اقتصادها وتحديثه تكنولوجيا كما أسهمت فى توفير الأسواق الخارجية لصادراته، وساهمت أيضا فى تمويل رفع مستوى معيشة الإسرائيليين وتوفير الخدمات المختلفة لهم بشكل يفوق قدرات الاقتصاد الإسرائيلي، وذلك لجعل الدولة الصهيونية جذابة للمهاجرين المحتملين الذين يشكل تدفقهم إليها هدفا دائما وضرورة ديموجرافية لها.
وقد بدأت الصناعة الإسرائيلية بدائية وصغيرة حتى عشرينيات القرن العشرين عندما بدأت تخطو خطواتها التحديثية الأولي، لكن القفزة الكبيرة جاءت فى بدايات ثلاثينيات القرن العشرين بعد عقد اتفاقية »هاعفارا« مع ألمانيا النازية فى عام 1933. وبموجب تلك الاتفاقية تمكن اليهود الألمان المهاجرون لفلسطين أو الراغبون فى الهجرة إليها من نقل رءوس أموالهم فى صورة بضائع ألمانية إلى فلسطين شرط أن يحولوا بضائع قيمتها ألف جنيه استرلينى بحد أدني، وطبقا لتلك الاتفاقية هاجر60 ألف يهودى من ألمانيا ومن النمسا التى كانت تحت نفوذها آنذاك.
وطبقا للحساب الأولى فإن هجرة 60 ألف ألمانى ونمساوى يحول كل منهم أكثر من ألف جنيه استرلينى بموجب الاتفاقية يعنى تدفق بضائع ألمانية قيمتها تبلغ على أقل تقدير نحو 60 مليون جنيه استرلينى لمصلحة المهاجرين اليهود فى فلسطين، لكن الموسوعة اليهودية ترى أن الرقم لم يتجاوز 8.1 مليون جنيه استرليني، فى حين تشير تقديرات عربية إلى أن الرقم بلغ 140 مليون مارك ألماني. وحتى إذا أخذنا بتقديرات الحد الأدنى أى 8.1 مليون جنيه استرلينى فإنه مبلغ هائل بالمقارنة بحجم الاقتصاد الفلسطينى فى ثلاثينيات القرن العشرين، وهو ما يدلل عليه حجم النقد الفلسطينى المتداول الذى لم يزد على خمسة ملايين جنيه فى عام 1938.
وقد تمت تلك التحويلات فى صورة آلات المانية حديثة نهضت على أساسها الصناعة الصهيونية فى فلسطين، وقد حققت اتفاقية «هاعفارا» مصلحة مشتركة بين اليهود وألمانيا النازية، حيث حقق اليهود الصهاينة نقل أموال ضخمة فى صورة آلات متقدمة تكنولوجيا إلى فلسطين كأمر ضرورى لتدعيم مشروعهم الصهيونى فى إقامة دولة إسرائيل على أراضيها، كما أتاح ذلك لعدد من اليهود الألمان أن يغادروا بلادهم ومعهم أموالهم هربا من التطرف القومى العنصرى الألمانى فى فترة سيطرة النازية. وبالمقابل أتاحت الاتفاقية لألمانيا أن تحرك الأموال اليهودية الألمانية المكتنزة وأن تحولها إلى طلب على السلع الألمانية بما يسهم فى إنعاش الاقتصاد الألمانى فى وقت كان العالم الرأسمالى وفى القلب منه أوروبا والولايات المتحدة مطحونا بأزمة الكساد العظيم التى بدأت فى أكتوبر 1929 واستمرت خلال ثلاثينيات القرن العشرين، كما أن ألمانيا النازية بعقدها لاتفاق »هاعفارا« فإنها تكون قد دعمت الحل الصهيونى للمشكلة اليهودية فى أوروبا آنذاك، الذى يقضى بإقامة دولة لليهود عبر اغتصاب فلسطين، وهو حل كان يلقى تأييدا من الاتجاهات القومية المتطرفة فى أوروبا باعتباره يخلص المجتمعات الأوروبية المسيحية من الأقليات اليهودية المرفوضة من قبلها.
ولأن التدفق الصهيونى إلى فلسطين كان يستهدف اغتصابها، فإن الصناعة بدأت عسكرية بالأساس فى عام 1934 من خلال صناعة الألغام والقنابل اليدوية، وفى سنة 1935 كانت تنتج 350 قنبلة يوميا، وبعد الحصول على آلات جديدة من بولندا بدأت تلك الصناعة فى عام 1939 فى إنتاج 15 ألف طلقة رصاص يوميا، وفى العام نفسه تم تطوير مدافع الهاون عيار 3 بوصات وتم فى تلك السنة إنتاج 48 مدفعا من هذا العيار مع كل مستلزماتها، بالإضافة إلى 5 آلاف قذيفة، واستخدمت كل هذه الأسلحة فى تسليح العصابات الصهيونية. وبالمقابل كان ممنوعا على الفلسطينيين أن يحملوا ولو سكينا عاديا.
وخلال الحرب العالمية الثانية اعتمد الجيش البريطانى على الصناعة العسكرية اليهودية فى فلسطين فى تصنيع بعض احتياجاته العسكرية، فقامت المصانع اليهودية فى فلسطين ما بين عامى 1942 ، 1944 بإنتاج نحو 3.6 مليون لغم مضاد للدبابات، ونحو 7.9 مليون وعاء فولاذي. وبلغت القيمة الإجمالية لمنتجات المصانع اليهودية فى فلسطين لحساب الجيش البريطانى خلال الحرب نحو 33 مليون جنيه استرليني.
ومع نهاية الحرب العالمية الثانية حدثت طفرة فى الصناعة العسكرية الصهيونية فى فلسطين، ففى يوليو 1945، وبتوجيه من بن جوريون ، تعاقدت أطراف يهودية مع إدارة موجودات الحرب الأمريكية لشراء مئات الأطنان من الآلات العسكرية كمخلفات حرب (خردة) فالآلة التى كانت تكلفتها 10 آلاف دولار مثلا ، بيعت بـ 125 دولارا ووصلت هذه الآلات كلها سالمة إلى فلسطين. وبفضل تلك الآلات الأمريكية ومن قبلها الألمانية والبولندية، أخذت الصناعة العسكرية الصهيونية تعمل بنشاط متزايد وأنتجت خلال الفترة من عام 1945 وحتى صدور قرار التقسيم فى نوفمبر عام 1947 ، نحو 2 مليون رصاصة للرشاش ستن، و 4750 رشاشا ، وأكثر من 100 مدفع هاون عيار بوصتين ، و53 ألف قنبلة يدوية. وفى 23 أكتوبر 1947 ، صدر أمر إلى الصناعات العسكرية بإنتاج 4000 مدفع هاون، و4 ملايين رصاصة، و130 ألف قنبلة يدوية.
وهكذا وفر الغرب الآلات والتمويل وحتى الطلب لإنعاش الصناعة العسكرية الصهيونية، فضلا عن أن العصابات الصهيونية فى فلسطين قد وفرت تيارا دائما ومتصاعدا من الطلب على منتجات الصناعة العسكرية الصهيونية فى فلسطين، وهو التيار الذى صار طوفانا مع بدء الاستعداد الصهيونى لخوض حرب اغتصاب فلسطين عند انتهاء الانتداب البريطانى عليها، ثم مع اشتعال تلك الحرب نفسها بعد ذلك، وفضلا عن ذلك فإن التكنولوجيا اللازمة لإقامة الصناعة الصهيونية فى فلسطين قبل عام 1948 قد جاءت من الولايات المتحدة ومن أوروبا وبالذات من ألمانيا وبولندا.
وبعد حرب الاغتصاب هاجر إلى فلسطين المحتلة نحو 686.7 ألف يهودى خلال الأعوام الأربعة من 1948-1951، أى نحو 105.6% من عدد اليهود فى فلسطين المحتلة عام 1948، وتلقت مساعدات هائلة من الغرب وعلى رأسه الولايات المتحدة التى تحولت إلى الراعية الرئيسية لها، كما عقدت اتفاقية «بروكسل» مع ألمانيا الغربية وتلقت تعويضات هائلة عما أسمته اضطهاد ألمانيا النازية لليهود، رغم أن الشعوب التى خضعت للاحتلال النازى وتعرض الملايين من ابنائها للتقتيل على يد النازى مثل الاتحاد السوفيتى السابق (24 مليونا)، ويوجوسلافيا (6 ملايين)، وبولندا (8 ملايين)، لم تتلق أى تعويضات.
وقد قدمت ألمانيا الغربية نحو 80% من هذه تعويضاتها لإسرائيل فى صورة شحنات من السلع الاستثمارية مثل الآلات والمعدات من جميع الأنواع، وقد استخدمتها إسرائيل فى بناء القواعد الرئيسية للصناعة الإسرائيلية الحديثة، فضلا عن استخدام التعويضات الألمانية فى إقامة مشروعات الرى وخطوط المياه وإقامة الطرق وشبكات الاتصالات والبنية الأساسية، فضلا عن شراء 60 قطعة بحرية شكلت العمود الفقرى للأسطول التجارى الإسرائيلى فى الخمسينيات وبداية الستينيات.
وتلقت إسرائيل دعما ماليا وتقنيا أمريكيا وأوروبيا، وبالذات من قبل فرنسا التى ساعدتها فى مشروعها النووى، انتقاما من مصر التى كانت تدعم ثورة الجزائر بكل قوتها. ولم يواجه الكيان الصهيونى عوائق تذكر يمكنها أن تعرقل نقل التكنولوجيا الغربية الحديثة إليه، فضلا عن أن جزءا مهما من الهجرات الاستعمارية التى شكلته كانت قادمة من بيئات متقدمة تقنيا فى أوروبا والغرب عموما. كما تم فتح السوق الغربية بلا قيود أمام الصادرات الإسرائيلية لمساعدة الاقتصاد الإسرائيلى على التطور والتقدم، وهو رغم حجمه الصغير، حصل على مساعدات خارجية تبلغ اضعاف ما حصلت عليه دولة كبيرة مثل مصر، وهو موضوع يستحق التناول تفصيلا فيما بعد. ويبقى الدعم المالى الهائل عنصرا أساسيا فى تمويل بناء الاقتصاد والقدرات العسكرية الصهيونية. وبالمقابل لم تتلق الدول العربية المحيطة بفلسطين سوى مساعدات هامشية ومشروطة، وليس أمام مصر وهذه الدول حتى فى ظل التسوية السياسية، سوى الاعتماد على نفسها لتحقيق التوازن الكفيل بحفظ أمن الوطن وحقوقه.

 

 

omantoday

GMT 14:29 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

الثكنة الأخيرة

GMT 14:28 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

سوريا... هذه الحقائق

GMT 14:27 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

في أنّنا بحاجة إلى أساطير مؤسِّسة جديدة لبلدان المشرق

GMT 14:26 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

مخبول ألمانيا وتحذيرات السعودية

GMT 14:25 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

التاريخ والفكر: سوريا بين تزويرين

GMT 14:24 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

إنجاز سوريا... بين الضروري والكافي

GMT 14:22 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

ليبيا: لعبة تدوير الأوهام

GMT 14:21 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

عالية ممدوح

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

فى ذكرى النكبة وأساطير بيع الأرض و«المعجزة» الصهيونية فى ذكرى النكبة وأساطير بيع الأرض و«المعجزة» الصهيونية



إطلالات أروى جودة في 2024 بتصاميم معاصرة وراقية

القاهرة - عمان اليوم

GMT 13:56 2024 الثلاثاء ,17 كانون الأول / ديسمبر

نصائح سهلة للتخلص من الدهون خلال فصل الشتاء

GMT 16:04 2019 الخميس ,01 آب / أغسطس

تمتع بالهدوء وقوة التحمل لتخطي المصاعب

GMT 09:41 2019 الخميس ,01 آب / أغسطس

تعيش أجواء مهمة وسعيدة في حياتك المهنية

GMT 22:59 2019 الأحد ,15 أيلول / سبتمبر

اهتمامات الصحف الليبية الأحد
 
syria-24

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

omantoday Omantoday Omantoday Omantoday
omantoday omantoday omantoday
omantoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
oman, Arab, Arab