بقلم: مصطفي الفقي
أستعيد ذكريات مثل هذه الأيام من عام ١٩٩٥، أى منذ نحو ثلاثين عامًا؛ حيث تلقيت دعوة من منتدى ديفوس لإلقاء محاضرة مع مسؤول إيرانى يعمل مساعدًا لوزير الخارجية فى طهران، وكنت نظيره على الجانب الآخر بنفس الدرجة تقريبًا مديرًا لمعهد الدراسات الدبلوماسية ومنقولاً إلى العاصمة النمساوية سفيرًا لمصر فى فيينا ومندوبًا مقيمًا لدى الوكالة الدولية للطاقة الذرية وباقى منظمات ووكالات الأمم المتحدة التى كان مقرها هناك.
وجاءنى يومها خطاب رسمى من دكتور شواب، مدير المنتدى، بأن المحاضرة التى أشترك فيها مع الدبلوماسى الإيرانى الكبير الذى أصبح وزيرًا لخارجية بلاده بعد ذلك سوف تدور حول موضوع الإسلام والسياسة، واضعين فى الاعتبار أن الزميل الإيرانى سوف يغطى الجانب المتصل بالمسلمين الشيعة فى القارة الآسيوية وغيرها من بقاع العالم باعتباره ممثلًا للثورة الإسلامية الإيرانية التى كانت حديث العالم وقتذاك ولا تزال.
أما الدبلوماسى المصرى القادم من بلد الأزهر أكبر مركز إسلامى سنى فى العالم فسوف تكون مهمته التعبير عن وجهة النظر السنية المذهب، وذلك مع الاعتراف ببعض الفروق بين وجهتى النظر، وأضافت المذكرة التى وردت إلينا - زميلى الإيرانى وأنا – أن الندوة سوف تنعقد فى القاعة الكبرى وتكون بمثابة المحاضرة الرئيسية فى ذلك المنتدى؛ حيث كانت قضية «الإسلام السياسى» مطروحة بقوة على الساحتين الدولية والإقليمية، وهاهى لا تزال تراوح مكانها شدًّا وجذبًا دون الوصول إلى رؤية جامعة وشاملة تقبلها الأطراف الإسلامية وغير الإسلامية فى الوقت نفسه.
ولقد بدأت يومها بالحديث عن تجذر الإسلام فى قلوب المؤمنين به وأن كل محاولة للمساس به تلقى دائمًا رد فعلٍ قويًّا من جانب كل الأطراف الإسلامية مهما اختلفت المذاهب وتباينت الاتجاهات، وقلت يومها العبارة الشهيرة التى جرت ترجمتها من العربية إلى الفارسية والإنجليزية والفرنسية والتى كان محتواها (أن الشعب المصرى سنى المذهب شيعى الهوى).
وقد استعرضت يومها حقيقة أن الخلافات بين المذهبين الكبيرين لا تتصل بجوهر الرسالة المحمدية ولا الشريعة الغراء ولكنها خلافات بين الفقهاء فى عصور مختلفة خصوصًا أن الأغلبية الساحقة من المسلمين هم من أهل السنة، وقد تناول الحديث تعليقًا على ما قلت السيد جواد ظريف الذى بدأ حياته بالخدمة فى السلك الدبلوماسى الإيرانى وتجمعت لديه خبرات متراكمة تتصل بالفهم الصحيح لذلك الدين الحنيفن وتعى جيدًا أن مصر قلعة أهل السنة وأنه لن توجد أبدًا مشكلات كبيرة بين أتباع المذهبين.
بل إن شاه إيران الشاب محمد رضا بهلوى قد تزوج بابنة أكبر ملك سنى فى ذلك الوقت وهى الأميرة فوزية ابنة الملك فؤاد الأول، فى وقت لم تكن فيه هناك نعرات دينية أو إرهاصات طائفية تتصل بالعقيدة، فالأرضية الإسلامية مشتركة ولكن المحاولات اليائسة لتمزيق الصف الإسلامى هى المسؤولة عن تلك الأجواء الضبابية التى تغلف العلاقات بين المسلمين والمسلمين ثم المسلمين جميعًا وأصحاب الديانات الأخرى، ولاشك أن الثورة الإسلامية فى إيران والتى اندلعت عام ١٩٧٩ قد تحولت إلى ظهير قوى لكافة التيارات الإسلامية الأخرى.
وكان أخطر ما سعت إليه هو محاولة تصدير الثورة الإسلامية إلى الدول العربية بالإضافة إلى ترتيب ساحات الكفاح دعمًا للمقاومة الإسلامية، سواء كان ذلك فى حزب الله بلبنان أو غيره من رفاق المسيرة على امتداد ساحات النضال المشترك فى المنطقة العربية والعالم الإسلامى. وهاهى الأيام قد دارت وعاد الصراع الكئيب مجددًا يطل على المنطقة وهو يحمل بذور الفتنة وعوامل القلق.
إنها صفحات مطوية من الذاكرة العربية. نرجو أن تتراجع عن عصرنا وأن تعترف كل الأطراف فى الشرق الأوسط بضرورة احترام الدولة الوطنية فوق كل اعتبار، لأن مبدأ المواطنة يغلف الجميع برداءٍ يؤكد المساواة بين الجميع بكل الحقوق والحريات. فالمواطنة تعنى فى أبسط صورها إقرار مبدأ المساواة بين المختلفين دينًا أو عرقًا أو لونًا.