قرار القيادة  ماذا يعني

قرار القيادة ... ماذا يعني؟

قرار القيادة ... ماذا يعني؟

 عمان اليوم -

قرار القيادة  ماذا يعني

بقلم - خالد الدخيل

الأمر السامي الذي أصدره العاهل السعودي الملك سلمان بن عبدالعزيز الثلثاء الماضي بالسماح للمرأة بقيادة السيارة يمثل علامة فارقة. هو كذلك بالفعل، لكن في السياق التاريخي والثقافي السعودي دون سواه. خارج هذا السياق تعتبر قيادة المرأة من المسلمات التي تم التصالح معها منذ وقت مبكر. أما في السياق السعودي، وهذه حقيقة يجب الاعتراف بها، إذ تأخر القرار كثيراً جداً. وهذا تحديداً ما يعطي خطوة الملك سلمان أهميتها الرمزية الكبيرة سعودياً، وسعودياً فقط. بهذه الخطوة وضع الملك حداً لحال لم تكن طبيعية تماماً. حال امتدت لعقود طويلة فرضت منع المرأة من القيادة على الغالبية بمنطق ديني محض من خلال مؤسسات رسمية، ولم يكن أمام الغالبية إلا التعايش مع المنع بغض النظر عن القبول أو عدم الاقتناع بمبررات ذلك. وفي هذا ملمح لطبيعة العلاقة بين الدولة والمجتمع في الحال السعودية، وأنها علاقة لا تتسم بالصدام بين طرفيها بقدر ما أنها تفرض عليهما التأقلم في ما بينهما، واستيعاب كل منهما لطبيعة الآخر ومتطلباته. مع التأكيد بطبيعة الحال على غلبة الدولة في هذه العلاقة، وأن عبء التأقلم والاستيعاب يقع في الغالب على طرف المجتمع وليس الدولة.

ما يؤكد ذلك أنه بالمنطق الديني المشار إليه كان منع المرأة من القيادة من دون أساس نظامي (قانوني)، بل كان يتعارض مع نظام المرور الذي لا يميز في نصوصه بين المرأة والرجل. ومن هنا جاء الأمر السامي لا ليسن نظاماً مرورياً جديداً يساوي بين المرأة والرجل، بل نص على تنفيذ النظام القائم كما هو في حق الاثنين. إذ يقول في نصه باعتماد «تطبيق أحكام نظام المرور ولائحته التنفيذية – بما فيها إصدار رخص القيادة – على الذكور والإناث على حد سواء»، من دون أي تغيير في نصوص هذا النظام.

ماذا يعني ذلك؟ يعني أولاً أن الدولة قبلت في البداية ولعقود طويلة بموقف المؤسسة الدينية من هذه المسألة تحديداً مجاراةً وإرضاءً لها، وليس على الأرجح قناعة بالمنع حتى بالمنطق الذي استندت إليه. وهو منطق ضعيف يقوم على آلية سد الذرائع (ما يمكن أن يترتب على قيادة المرأة من مفاسد، كما يقال) مع الاعتراف بعدم وجود مبررات تمنع أو تحرم هذه القيادة بحد ذاتها. بالمنطق ذاته هناك مفاسد تترتب أيضاً على قيادة الرجل للسيارة، والدليل أن السعودية تحتل مركزاً متقدماً في حوادث السيارات والعدد الكبير لضحاياها من قتلى ومصابين. ومع ذلك لم يتم تناول المسألة من هذه الزاوية في حال الرجل. ولعله من الواضح أنه يستحيل قطعاً منع الرجل والمرأة معاً من القيادة بناء على هذا المنطق. ما يدل على هشاشته. ومن ثم فإن قصر المنع على المرأة كان في نهاية المطاف موقفاً اجتماعياً بمسوغات دينية، أو موقف ذكوري ضد المرأة.

والمؤشرات الدالة على موقف الدولة من هذه القضية ثلاثة. أولاً أن الدولة بعد تبني منع المرأة من القيادة وضعت عبء المسؤولية عن ذلك على المجتمع وليس على الدولة، إدراكاً منها أن المؤسسة الدينية من مؤسسات الدولة. وفي هذا محاولة للقول أن موقف المؤسسة يعبر عن موقف المجتمع وليس الدولة. في الوقت نفسه هو محاولة من الدولة للتحلل من مسؤولية المنع لعدم القناعة به أصلاً. وهو موقف ليس صحيحاً في كل الأحوال. صحيح أنه كان هناك إذعان مجتمعي للمنع، لكن هذا ليس دليلاً على موافقة الغالبية. فهذه الغالبية نفسها قبلت من قبل ومبكراً ما هو أخطر من قيادة المرأة، أعني تعليم المرأة وخدمة البث التلفزيوني، على سبيل المثال. الأهم من ذلك أن قيادة المرأة مثل قيادة الرجل تحتاج إلى تشريع، والدولة هي الوحيدة التي تملك سلطة التشريع وليس المجتمع. ولذلك لم يصدر أبداً تشريع بالمنع. ما حصل أن المنع فرض، أو فرض نفسه في شكل غير قانوني. ثانياً أنه سبق للدولة أن أصدرت أنظمة تتعلق، كما أشرت، بمسائل أهم وأخطر من مسألة قيادة المرأة، على رغم ممانعة المؤسسة الدينية. من ذلك قرار تعليم المرأة الذي أصدره الملك سعود بن عبدالعزيز في أواخر خمسينات القرن الماضي. ومن ذلك أيضاً قرار إنشاء التلفزيون الذي بدأت التحضيرات له نظامياً في عهد الملك سعود، ثم تم تبنيه وتنفيذه في عهد الملك فيصل. ومن المعروف أن خدمة البث التلفزيوني بدأت في السعودية عام ١٩٦٤. ومع أهمية وخطورة كلا القرارين (مقارنة بموضوع قيادة المرأة)، فإنهما صدرا عندما كانت المؤسسة الدينية في ذروة قوتها، وكان المجتمع أقل تعليماً وانفتاحاً وأكثر محافظة بكثير مما كان عليه عندما فرض منع المرأة من القيادة. ثالثاً أن الدولة الآن هي التي بادرت إلى إنهاء المنع والسماح للمرأة بالقيادة استناداً إلى المنطق الديني ذاته الذي كان أساس المنع. هذا مع ملاحظة أن المفاسد التي يمكن أن تترتب على قيادة كل من المرأة والرجل كانت، ولا تزال وستظل قائمة، لأنها جزء طبيعي من عمل المجتمع وحركته. وليس هناك من سبيل لوضع حد نهائي لهذه المفاسد، وتخليص المجتمع منها بكل أنواعها وأحجامها. السبيل الوحيد المتاح هو محاولة السيطرة عليها لتحجيمها والتقليل من آثارها السلبية. ولا يمكن تحقيق ذلك، كما يشير المسار التاريخي للقضية وما انتهت إليه حتى الآن، إلا من خلال علاقة الدولة بكل مؤسساتها بالمجتمع، وعلى أساس من منطق الدولة وليس منطق الدين.

وذلك انطلاقاً من أن منطق الدين، عبر التاريخ بما في ذلك التاريخ الإسلامي، جزء تابع لمنطق الدولة، وليس العكس. وفي الحال السعودية ينسجم هذا مع واقع (ليس هناك واقع آخر) أن المؤسسة الدينية جزء من الدولة، وليست الدولة جزءاً من المؤسسة الدينية.

عندما ننظر إلى الموضوع من هذه الزاوية يتضح في شكل جلي أن منع المرأة من القيادة فرض لعقود حالاً غير طبيعية على الجميع، أربكت الدولة والمجتمع معاً، وأسهمت في تأجيل قضايا مهمة، وتعطيل حلول ملحة لقضايا قائمة. إلى جانب ذلك أحرجت الدولة والمجتمع معاً أمام العالم من دون مبرر وجيه لذلك. ومن ثم فإن إقدام الدولة أخيراً من خلال الملك (رأس الهرم فيها) إلى وضع حد لهذه الحال أعاد الأمور إلى نصابها الصحيح.

إذاً المعنى الثاني لما انتهت إليه القضية أنه إذا كان منع المرأة من القيادة تحقق بمنطق ديني يتعارض، أو لا ينسجم مع منطق الدولة باعتبارها دولة للجميع (إناثاً وذكوراً)، فإن رفع هذا المنع وتعطيل مبرراته إنما تحقق بمنطق هذه الدولة، وموافقة المؤسسة الدينية على ذلك بمبررات شرعية كما جاء في بيان هيئة كبار العلماء الذي صدر في أعقاب الأمر السامي. السؤال: لماذا سايرت الدولة المؤسسة الدينية من قبل، ثم غيرت موقفها لاحقاً؟ ولماذا تغير موقف المؤسسة الدينية بين الأمس واليوم مع عدم تغير المبررات الشرعية؟ يكمن السر في كلمة التغير. تغير المجتمع، والدولة، وقيادة الدولة، مضاف إلى ذلك التغيرات الإقليمية والدولية الهائلة التي يشكل بعضها مصادر تهديد محتملة للسعودية. كل ذلك فرض على الدولة النظر إلى القضية من زاوية حاجتها لإزاحة هذه القضية من طريقها. هي بذلك تكون غيرت اتجاه علاقة الدين بالدولة إلى الوجهة الصحيحة. يبقى طبعاً إن كان هذا التغير استراتيجياً ويشمل جميع مناحي هذه العلاقة، أم أنه تغير جزئي محصور بهذه المسألة تحديداً؟

أما انقلاب موقف المؤسسة فيعود إلى أن التغيرات المشار إليها أصابتها بتبعاتها كما أصابت غيرها. فهي في عهد محمد بن إبراهيم ليست هي ذاتها في عهد عبدالعزيز بن عبدالله. لكن الحقيقة أن موقفها من حقوق ولي الأمر وضرورة طاعته لم يتغير عما كان عليه من قبل. وهذا ما أشارت إليه في بيانها الأخير. ما تغير بالنسبة للاثنين هو عنصر التوازنات في العلاقة بينهما، والإطار الاجتماعي والسياسي لهذه العلاقة بين الأمس واليوم.

مهما يكن، فإن ما يجب الانتباه إليه وإعطاؤه حقه من التقدير في مسار هذه القضية أن المجتمع استوعب مجاراة الدولة للمؤسسة الدينية، كما استوعب موقف هذه المؤسسة. هل حصل هذا لأن غالبية المجتمع كانت مع المنع؟ ربما، لكن كيف؟ وتحت أي ظروف؟ وبأي مسوغات؟ ثم لماذا قبلت هذه الغالبية ما كان أخطر من المنع، وتقبل الآن عكس ما قبلت به من قبل؟ لا يكفي في حال السؤال الأخير الإشارة إلى تغير المجتمع- وهو عامل وجيه– من دون وضعه في سياقه الأشمل. ترى من هي الغالبية الصامتة في حالي المنع والسماح؟

omantoday

GMT 14:47 2021 الأربعاء ,17 تشرين الثاني / نوفمبر

الصين: رجل الضريح ورجل النهضة

GMT 14:45 2021 الأربعاء ,17 تشرين الثاني / نوفمبر

رؤية تنويرية لمدينة سعودية غير ربحية

GMT 14:44 2021 الأربعاء ,17 تشرين الثاني / نوفمبر

الحوار الاستراتيجي بين القاهرة وواشنطن

GMT 14:43 2021 الأربعاء ,17 تشرين الثاني / نوفمبر

... في أنّنا نعيش في عالم مسحور

GMT 14:42 2021 الأربعاء ,17 تشرين الثاني / نوفمبر

أبو عمار... أبو التكتيك

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

قرار القيادة  ماذا يعني قرار القيادة  ماذا يعني



إطلالات أروى جودة في 2024 بتصاميم معاصرة وراقية

القاهرة - عمان اليوم

GMT 13:56 2024 الثلاثاء ,17 كانون الأول / ديسمبر

نصائح سهلة للتخلص من الدهون خلال فصل الشتاء

GMT 16:04 2019 الخميس ,01 آب / أغسطس

تمتع بالهدوء وقوة التحمل لتخطي المصاعب

GMT 09:41 2019 الخميس ,01 آب / أغسطس

تعيش أجواء مهمة وسعيدة في حياتك المهنية

GMT 22:59 2019 الأحد ,15 أيلول / سبتمبر

اهتمامات الصحف الليبية الأحد

GMT 12:27 2019 الخميس ,05 أيلول / سبتمبر

السعودية تستضيف نزال الملاكمة الأهم هذا العام

GMT 21:47 2020 الثلاثاء ,30 حزيران / يونيو

يتناغم الجميع معك في بداية هذا الشهر

GMT 19:40 2021 الإثنين ,01 شباط / فبراير

يبدأ الشهر بيوم مناسب لك ويتناغم مع طموحاتك

GMT 04:43 2020 الإثنين ,02 تشرين الثاني / نوفمبر

حظك اليوم برج العقرب الاثنين 2 تشرين الثاني / نوفمبر 2020

GMT 18:09 2020 الجمعة ,28 شباط / فبراير

تتخلص هذا اليوم من الأخطار المحدقة بك
 
syria-24

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

omantoday Omantoday Omantoday Omantoday
omantoday omantoday omantoday
omantoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
oman, Arab, Arab