مفارقات شرق أوسطية

مفارقات شرق أوسطية

مفارقات شرق أوسطية

 عمان اليوم -

مفارقات شرق أوسطية

بقلم: عبد المنعم سعيد

المفارقة هي حالة من التناقض بين مصالح الدول والتعبيرات التي تصدرها أخلاقياً وسياسياً عن هذه المصالح. هي أحياناً تكون مثل ذلك المثل الأميركي الذي يقول إن المرء لا يستطيع أن تكون معه الكعكة وأن يأكلها في الوقت نفسه؛ لأنه مع أكلها تتوقف ملكيته لها، أما إذا امتلكها فإنه لا يستطيع أكلها. هي مفارقة مثل الإشكالية يصعب بل يستحيل أن يوجد لها حل لأنها دائرية المنطق، وهي ترتب أسئلة محيرة عما إذا كانت البيضة تأتي قبل الدجاجة أم العكس. وفي الشرق الأوسط كثيراً ما كانت الأحزاب الوطنية ترفض المفاوضات رافعة الشعار أنه لا تفاوض إلا بعد الجلاء؛ وساعتها فإن الحاذقين يتساءلون عمّا إذا كان ذلك كذلك فلماذا يكون التفاوض أصلاً. الموقف الذي تتخذه أوكرانيا هذه الأيام يقترب من هذا حتى فشل الوفد التفاوضي الأفريقي في إقناع الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي بأن هناك ضرورة لوقف إطلاق النار وبدء عملية تفاوضية ترفع عن العالم أزمة رهيبة وأثقالاً اقتصادية مروعة في نتائجها واحتمالاتها؛ فكانت إجابته بضرورة الجلاء الروسي أولاً، فضمن بذلك استمرار احتلال الأراضي الأوكرانية أو بعضاً منها لفترات طويلة. إسرائيل تعتقد أنها يمكن أن تفعل ذلك، فهي تريد الحصول على السلام بينما لا تحرر الأرض، وتلعب بالبيضة والحجر - وهو المثل المصري - في اللحظة نفسها حتى ولو أدى إلى كسر كل شيء وليس البيض فقط. ومع ذلك فإن إسرائيل تستبعد الأرض بعيداً عن الكلام والمفاوضات، وطرح رئيس وزرائها هو السلام مقابل السلام، وبعد ذلك فإن إسرائيل لن تجد معضلة في أن تستمر في استيطان الأراضي، وتعديل أوضاع في القدس، مخالفةً اتفاقيات سلام سابقة.

الموجة الجديدة في المفارقات الشرق أوسطية أن الولايات المتحدة التي قبل سنوات ليست بعيدة أكدت أنها تريد الابتعاد عن المنطقة التي لا تولّد إلا حروباً أبدية (Forever Wars)، على حد تعبير الرئيس جوزيف بايدن، الذي عزم على ذلك أثناء مشاركته الرئيس أوباما في قيادة الولايات المتحدة. البديل المطروح كان التوجه نحو آسيا التي توقفت عن حروبها الأبدية منذ انتهاء الحرب الفيتنامية، أو هكذا قيل. المعضلة أن آسيا كانت الميدان التاريخي للحروب الأبدية الأميركية أثناء الحرب العالمية الثانية، وما أعقبتها من حروب في كوريا وفيتنام وأفغانستان. الحجة الأميركية كانت أن آسيا تشكل ميداناً للازدهار الاقتصادي، والبزوغ الديمقراطي؛ ولكن «المنسي» في الموضوع و«المسكوت» عنه في الكلام هو أن أهل مكة دائماً أدرى بشعابها، ومن الطبيعي أن تكون آسيا للآسيويين، بخاصة الصين والهند واليابان، وروسيا أيضاً، حيث توجد النسبة الأكبر من أراضيها في القارة الآسيوية.

المفارقة المركبة هنا هي أن واشنطن بعد إعلان نيتها الرحيل من الشرق الأوسط، فإنها بدأت بإلقاء اللوم على الصين، لأنها بدأت التدخل في إقليم تراه منطقة نفوذ دائمة، سواء أكانت حاضرة فيه أو أنها راحلة؛ ولوم آخر على المملكة العربية السعودية، لأنها جلبت الصين إلى المنطقة، سواء كان ذلك عند عقد القمة العربية - الصينية، أو عندما صارت بكين نافذة على استعادة العلاقات الدبلوماسية بين السعودية وإيران. وعندما ألمحت الصين إلى أنها لا تجد بأساً من محاولة حل الصراع الفلسطيني - الإسرائيلي بحكم علاقاتها القوية بالطرفين الإسرائيلي والفلسطيني، فإن الأعصاب ارتجت في واشنطن، لأنها سوف تفقد الهيمنة على عملية السلام، وهي التي فشلت في وقف الاستيطان الإسرائيلي في المنطقة «سي» التي حددتها اتفاقيات السلام التي أشرفت عليها واشنطن.

المفارقات ليست كلها خارجية على الإقليم، وإنما هناك مفارقات داخلية تبدأ بأنه مهما كان الحديث عن الدولة الوطنية وسماتها التاريخية الصلبة، فإنها ساعة الجد تتفتت بسرعة كبيرة. وعندما هلّ ما سمّي بـ«الربيع العربي» بسماته الليبرالية التي نجم عنها الفوضى الكبرى التي لم تلبث أن انقلبت إلى حروب أهلية عشائرية. أحوال سوريا وليبيا واليمن والسودان المتأزمة دارت كلها حول مؤامرات دولية أميركية وصهيونية، ولم يتساءل أحد لماذا لم تصمد الدولة الوطنية لهذه المؤامرات، ولماذا لم تلتئم جروح بين عشائر وطوائف كان ثمن وقوعها باهظاً.

المفارقة الفلسطينية فيها الكثير من العجب، فرغم أن الهدف الفلسطيني الأسمى هو قيام الدولة الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدس الشرقية؛ فإن الواقع يشهد على أربع وحدات سياسية فلسطينية لم تنجح أبداً في الوقوع تحت استراتيجية واحدة لقيام الدولة: الفلسطينيون داخل إسرائيل، والفلسطينيون في الضفة الغربية، والفلسطينيون في غزة، وفلسطينيو المهجر. في نظر العالم كانت منظمة التحرير الفلسطينية هي الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني، ولكن لم يكن هو الحقيقة الصافية للشعب الفلسطيني ذاته. السلطة الوطنية الفلسطينية التي كانت أول سلطة وطنية فلسطينية تقع على أرض فلسطين تتعرض الآن للترنح والانقسام يقترب من حرب أهلية في الداخل، وحرب مع إسرائيل لم يصدر بصددها تشريع فلسطيني.

وسط هذه المفارقات كلها، هناك ما هو أكثر مما جرى ذكره، فإن إدارتها تحتاج إلى قدر كبير من العزيمة. والحقيقة أنه لا توجد دولة عربية واحدة يمكنها أن تتحمل عبء التعامل مع هذه المفارقات كلها وحلها لصالح الاستقرار والأمن الإقليمي الضروري للدول العربية المتماسكة في هويتها الوطنية، والساعية بشدة للإصلاح الاقتصادي والسياسي. والحقيقة أيضاً أن هناك جهوداً جادة للتعامل مع الأزمات والتناقضات، ولكنها متناثرة في الحالة الفلسطينية على سبيل المثال ما بين سلام المعاهدات، والسلام الإبراهيمي، وسلام غاز غزة الاقتصادي وغيرها، ويمكنها جميعاً أن تقع في نسق استراتيجي واحد.

 

omantoday

GMT 19:41 2024 الخميس ,17 تشرين الأول / أكتوبر

مجالس المستقبل (1)

GMT 19:20 2024 الخميس ,17 تشرين الأول / أكتوبر

البحث عن مقبرة المهندس إيمحوتب

GMT 15:41 2024 الأحد ,14 تموز / يوليو

موسم انتخابى كثيف!

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

مفارقات شرق أوسطية مفارقات شرق أوسطية



إطلالات أروى جودة في 2024 بتصاميم معاصرة وراقية

القاهرة - عمان اليوم

GMT 13:56 2024 الثلاثاء ,17 كانون الأول / ديسمبر

نصائح سهلة للتخلص من الدهون خلال فصل الشتاء

GMT 16:04 2019 الخميس ,01 آب / أغسطس

تمتع بالهدوء وقوة التحمل لتخطي المصاعب

GMT 09:41 2019 الخميس ,01 آب / أغسطس

تعيش أجواء مهمة وسعيدة في حياتك المهنية

GMT 22:59 2019 الأحد ,15 أيلول / سبتمبر

اهتمامات الصحف الليبية الأحد

GMT 21:26 2020 الثلاثاء ,30 حزيران / يونيو

كن قوي العزيمة ولا تضعف أمام المغريات

GMT 12:27 2019 الخميس ,05 أيلول / سبتمبر

السعودية تستضيف نزال الملاكمة الأهم هذا العام

GMT 19:24 2021 الإثنين ,01 شباط / فبراير

التفرد والعناد يؤديان حتماً إلى عواقب وخيمة
 
syria-24

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

omantoday Omantoday Omantoday Omantoday
omantoday omantoday omantoday
omantoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
oman, Arab, Arab