بقلم - عبد المنعم سعيد
كان الاحتفال بالعيد الوطني للمملكة العربية السعودية مناسَبة في القاهرة لإظهار المدى الذي وصلت إليه العلاقات المصرية السعودية في مجالات مختلفة تبدأ بالاقتصاد، ولا تنتهي بالتعامل المشترك مع مختلف القضايا الإقليمية والدولية. الأمر المهم في هذا الإفصاح هو أنه عكس بشكل جلي المدى الذي وصل إليه الإصلاح في البلدين وفق رؤية التي جرى إشهارها في مصر والمملكة في ذات الوقت تقريباً عام ، الأمر الآخر هو أن كلا البلدين أخذ في اتجاه تنموي كبير في اتجاه البحر الأحمر وخليج العقبة قابل لإنشاء منطقة واسعة للرخاء المشترك تغذي جهود البلدين نحو النمو والانتشار الجغرافي وتنويع مصادر الدخل والموارد الاقتصادية.
وقبل شهور قمت بزيارة مدينة طابا المصرية ومن هناك كانت الأراضي السعودية والأردنية على مرمى البصر، ومن هنا نبتت الفكرة التي بدت منطقية وفي زمنها تماماً.
الصورة التي خرجت من الاحتفال هي أن المملكة العربية السعودية تعد ثاني أكبر مستثمر في مصر باستثمارات تخطت الـ6 مليارات دولار موزعة على أكثر من 500 مشروع استثماري، فيما تبوأت مصر المرتبة الثانية في قائمة أكبر الدول التي تم إصدار رخص استثمارية لها بالمملكة عام 2020 بإجمالي 160 رخصة استثمارية. ومن الناحية الأخرى بلغ إجمالي الاستثمارات المصرية في المملكة 1.4 مليار دولار بنهاية عام 2020، وهي مؤشرات إيجابية في ظل انخفاض تدفقات الاستثمار العالمي بنسبة 42 في المائة عام 2020، مقارنة بعام 2019 وفقاً لتقرير مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية «أونكتاد». بلغ عدد الشركات السعودية العاملة في مصر والمثبتة في هيئة الاستثمار نحو (6280 شركة)، إجمالي استثماراتها بلغ 20 مليار دولار، وشهد حجم التبادل التجاري نمواً وزيادة مطردة عاماً بعد عام تخطت الـ5.5 مليار دولار عام 2020، وارتفعت قيمة الصادرات السعودية المصرية إلى 7.561 مليون دولار خلال الربع الأول من عام 2021 مقابل 3.412 مليون دولار خلال نفس الفترة من عام 2020 بنسبة ارتفاع قدرها 9.13 في المائة. وفي العموم فإن المستهدف زيادة هذه الاستثمارات إلى 50 مليار دولار خلال الخمس سنوات القادمة، فضلاً عن تعزيز حركة التجارة البينية والمشروعات الاستثمارية المشتركة بين مصر والمملكة في مختلف المجالات التنموية.
والسبب المتوقع وراء هذه القفزة يرجع أولاً إلى أن اتفاقية ترسيم الحدود البحرية بين البلدين أدت إلى نتائج اقتصادية واستراتيجية بالغة المدى، حيث أطلقت العنان للبلدين لاستغلال المناطق الاقتصادية الخالصة لكل منهما، وفتحت الباب لتغيرات ديمغرافية كبيرة تظهر في مصر بصورة واضحة في المخطط المصري لتعمير سيناء بدءاً من شرق قناة السويس، ثم بعد ذلك بمجالات الزراعة والسياحة والتعدين واستكشاف النفط والغاز في البحرين الأحمر والجزر الواقعة فيه ( جزيرة) والأبيض في آفاقه الأوروبية من خلال مدينة «السلام» الاقتصادية. الجانب السعودي على البحر الأحمر أخذ على عاتقه الاستغلال الاقتصادي والسياحي للجزر، وإقامة العديد من المدن في مقدمتها مدينة «نيوم» التي باتت الآن على مرمى البصر من الساحل المصري، بينما تنمو مدينة العلا ومنطقة تبوك في الشمال الغربي للمملكة. وبينما أعطى هذا الاتفاق الفرصة لبدء أنشطة البحث والاستكشاف للبترول والغاز لأول مرة في المياه الاقتصادية المصرية بالبحر الأحمر، فإنه قرب المناطق السياحية المصرية في الغردقة ومرسى علم وشرم الشيخ من الأنماط السياحية التي أولتها الهيئة السعودية للسياحة اهتماماً نوعياً في تفاصيل تجارب موسم «شتاء السعودية» الذي أطلقته في العام الماضي لتلبية متطلبات الراغبين من المواطنين والمقيمين ومواطني دول مجلس التعاون الخليجي في الحصول على ما يُعرف بـ«سياحة الاستجمام والاسترخاء»، خصوصاً أن المملكة تتميز بوجهات مثل مدينة «حقل» «المدينة الشاطئية الواقعة في منطقة تبوك ذات المياه الشفافة والشواطئ الساحرة».
بعد سبعة أعوام يفتح ما تحقق على جانبي البحر الأحمر وخليج العقبة في مصر والسعودية الأبواب لمنطقة للرخاء المشترك على جانبي المياه، يغذيها على الجانب السعودي قوة اندفاع اقتصادية نحو غرب المملكة حيث مجالات تنويع الاقتصاد المختلفة، سواء كان ذلك في جانب السياحة الدولية وليس فقط السياحة الدينية، أو الاكتشافات المختلفة للثروات المعدنية، والخدمات الممكنة في الموانئ الأكثر تطوراً. وإذا كان ممكناً إنشاء منتدى غاز شرق المتوسط الذي يضم سبع دول تنتج الغاز وتسيله وتنقله وتصدره وتدعم به صناعات ثقيلة مستهلكة للطاقة في مصر، فإن منتدى أو رابطة أو منظمة للتعاون في شمال البحر الأحمر، تكون نواتها مصر والسعودية ومجالاتها، ربما تبدأ بالسياحة ولكنها تنتهي بمجالات متعددة تمتد إلى الخدمات البحرية بأنواعها والنفط والغاز، لكي تتكامل مع محور التصنيع المصري في قناة السويس شرقها وغربها. لقد كان لإنشاء جامعة الملك سلمان في سيناء بمواقعها المختلفة، وجامعة الملك عبد الله في مدينة الجلالة القريبة من ميناء العين السخنة المطل على قناة السويس عاكساً لإمكانيات جديدة للتواصل في مجالات التعليم والبحث العلمي وتطوير التكنولوجيا.
وعلى الجانب السعودي من البحر فإن التقدم الجاري لإنشاء مدينة «نيوم» التي يشمل مخططها الكبير التواصل مع سيناء المصرية وميناء العقبة الأردني لا يوسع من نطاق التعاون بين الدول فقط، وإنما يقيم قاعدة كبيرة للبحث العلمي والتبادل الثقافي. كل الطرق كما يقال تؤدي الآن في مصر والسعودية إلى البحر الأحمر، حيث يتم الانتقال العمراني الحثيث في الجانب المصري من وادي نهر النيل الضيق إلى الشواطئ الفسيحة والرحبة على البحرين الأحمر والأبيض. الجانب السعودي تقدم بسرعة في اتجاه الشمال الغربي وشواطئ غرب المملكة التي باتت تحل محل السفر إلى الخارج في تحقيق المتعة للمواطنين والمقيمين في السعودية في ظل ثقافة وطنية.
لقد نجحت مصر والسعودية في أنه رغم تأثيرات جائحة «كورونا»، فقد استمرت عملية التنمية في البلدين في اتجاهات متعددة قائمة على التجديد المادي بامتداد العمران إلى مناطق بعيدة، والإصلاح الاقتصادي، وتنويع مصادر الدخل، ولا يقل أهمية عن ذلك التجديد الفكري سواء كان دينياً أو مدنياً. والآن بات مع «المعتاد الجديد» ممكناً النظر إلى المستقبل من خلال إنشاء نواة للتعاون الإقليمي الذي يرتكز على الجهود الحالية للتطوير والتقدم في البلدين. وعلى ضوء التوجه نحو تقليل التوتر بين دول الإقليم، والقنوات المفتوحة الآن بين دول متخاصمة، والسعي إلى حل مشكلات متأزمة نحو استقرار الدولة الليبية، وفتح جسور أردنية مع سوريا، فإن إضافة ساحة جديدة ومبتكرة للتعاون والتواصل والرخاء المشترك سوف تكون إضافة كبيرة للدولة الوطنية وتراثها في المنطقة. لقد كتبت كثيراً في هذا المقام داعياً إلى اعتماد الحل الإقليمي لمشاكل المنطقة، ولكن المؤكد هو أن مفتاحها سوف يكون تقديم مشروع كبير يكون مثلاً مختلفاً عن تجارب عربية سابقة لم يحالفها النجاح، لأنه يستند إلى قوة اندفاع الدولة الوطنية وسعيها الكثيف نحو النمو والمشاركة في السباق العالمي نحو التقدم.