استفتاء على اعتقال

استفتاء على اعتقال

استفتاء على اعتقال

 عمان اليوم -

استفتاء على اعتقال

إنعام كجه جي
بقلم - إنعام كجه جي

يعجب العرب حين يعرفون أن بين العراقيين من يسمّي أبناءه وبناته: جمهورية. ثورة. مناضل. خنجر. ميسلون. جزائر. كرامة واعتقال. تفتح البنت عينيها على الدنيا وشقيقها الكبير في المعتقل، هل من المناسب أن تسمّى بشائر؟

اعتقال الطائي عراقية درست النحت في أكاديمية الفنون الجميلة في بغداد. اشتهرت بعد أن قدّمت البرنامج التلفزيوني «السينما والناس» لمدة خمس سنوات. لم تكن مجرد مذيعة لبرنامج يعدّه زميلها علي زين العابدين ويخرجه عماد بهجت. بل هي ذرة الملح التي منحت البرنامج مذاقه وكانت سبباً في نجاحه. ينتظرها المشاهدون مساء كل أحد ليعجبوا بطلّتها. شابة بنت عائلة معروفة من مدينة الحلّة، مثقفة بما يكفي، تجلس بظهر مستقيم تداري جمالها بشيء من الكبرياء، تحاور ضيفها بصوت هادئ وتقدم معلومات دسمة تسبق عرض فيلم من الأفلام العالمية.

شخصية استثنائية كان لا بد وأن تلفت النظر. تغرّد خارج السرب وتستعصي على التدجين. ضايقوها وأبعدوها عن التلفزيون فغادرت العراق أواخر السبعينات. كافحت في منفاها وحيدة ونالت الدكتوراه. تزوجت وولدت ابنة قبل أن يغلبها المرض الخبيث قبل أيام. توفيت اعتقال الطائي بسكون في بودابست. رحيل عاديّ يحصل يومياً على مدار الساعات. لكن غيابها أحدث هزّة في مواقع التواصل. بقي اسمها يلمع كالألماس في ذاكرة العراقيين. تحوّل غيابها إلى استفتاء على بشاعة ما حدث ويحدث في وطنهم.

لماذا كل هذا الحزن عليها؟ هو ليس مجرد تعاطف مع فنانة مريضة مغبونة، بل لأن اعتقال الطائي علامة من زمن كان واعداً مضيئاً وانطفأ. وأيضاً لأنها واحدة من ملايين العراقيين الذين حرفت السياسة مصائرهم وحكمت عليهم بالهجرة من بلد الخيرات والتشتت في القارات بدل أن يقدموا ثمار عقولهم ومواهبهم لأبناء شعبهم. يموتون ويدفنون في التُرب الغريبة والمتحكمون بالوطن ساهون عنهم.

وجد المتنورون في مظهر اعتقال الطائي وثقافتها وشجاعتها نموذج المواطن حامل الأمل. شابة تمتلك حريتها. توشّحت برجاحة عقلها لا بأحجبة مصطنعة. عراقية جميلة سليلة رجال ونساء قاوموا في الأرياف وفي المدن على امتداد القرن الماضي لبناء عراق حضاريّ مستقل قوي ثريّ مضيء في منطقته، يلهم الوطن العربي بمواهب أبنائه الرواد من الشعراء النحاتين والرسامين والمعماريين والمسرحيين والمطربين وصانعي الجمال.

تقول اعتقال إن الوطن هو الذاكرة. نحن من جيل فتح أعينه أواسط القرن الماضي على جيش من المتعلمين من الجنسين، يشمّرون عن سواعد مباركة في التربية والاقتصاد والهندسة والطب والصناعة والزراعة ومختلف الحرف والمهارات. وكان هناك سلاح منضبط شامخ يحمي كل ذلك، نغني له في مدارسنا: «الجيش سور للوطن». ذهب الملايين من أبناء وبنات الأميين والأميات إلى المدارس ودخلوا الجامعات وسافروا في بعثات. كان الوطن يكبر بهم ويتوهج ويشق مكانه في عالم واسع سريع التطور. ملعونة هي السياسة والأصابع الخارجية التي لعبت بعقول جامحة وصرفت الأحزاب عن نظرياتها الطيبة المفترضة وأحالتها ميداناً للتقاتل والدماء. جاءت الحروب واكتمل البلاء.

في العاشر من مايو (أيار) 2003، كتبتُ مقالاً في هذه الصحيفة أتخيل فيه عودة رفات كل مبدعينا الذين دفنوا في المغتربات. الجواهري والبياتي وبلند الحيدري ومصطفى جمال الدين وغائب طعمة فرمان ومنير بشير والممثلة الرائدة زينب وغيرهم وغيرهم. ومرت عشرون عاماً وقائمة الأسماء تحتشد بمزيد من الراحلين حتى ما عاد يمكن حصرها. آخر كلمة وصلتني من اعتقال: لكم السلامة لأن الطيبين قلّة. أرى الأمم تسعى لاستعادة ثرواتها المنهوبة والموزعة في متاحف الغير. هل الحجر أهم من البشر؟

omantoday

GMT 08:32 2024 الثلاثاء ,14 أيار / مايو

هوامش قمة البحرين

GMT 08:30 2024 الثلاثاء ,14 أيار / مايو

مشعل الكويت وأملها

GMT 08:29 2024 الثلاثاء ,14 أيار / مايو

بقاء السوريين في لبنان... ومشروع الفتنة

GMT 08:28 2024 الثلاثاء ,14 أيار / مايو

“النطنطة” بين الموالاة والمعارضة !

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

استفتاء على اعتقال استفتاء على اعتقال



إطلالات أروى جودة في 2024 بتصاميم معاصرة وراقية

القاهرة - عمان اليوم

GMT 13:56 2024 الثلاثاء ,17 كانون الأول / ديسمبر

نصائح سهلة للتخلص من الدهون خلال فصل الشتاء

GMT 16:04 2019 الخميس ,01 آب / أغسطس

تمتع بالهدوء وقوة التحمل لتخطي المصاعب

GMT 09:41 2019 الخميس ,01 آب / أغسطس

تعيش أجواء مهمة وسعيدة في حياتك المهنية

GMT 22:59 2019 الأحد ,15 أيلول / سبتمبر

اهتمامات الصحف الليبية الأحد

GMT 21:26 2020 الثلاثاء ,30 حزيران / يونيو

كن قوي العزيمة ولا تضعف أمام المغريات

GMT 12:27 2019 الخميس ,05 أيلول / سبتمبر

السعودية تستضيف نزال الملاكمة الأهم هذا العام

GMT 19:24 2021 الإثنين ,01 شباط / فبراير

التفرد والعناد يؤديان حتماً إلى عواقب وخيمة
 
syria-24

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

omantoday Omantoday Omantoday Omantoday
omantoday omantoday omantoday
omantoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
oman, Arab, Arab