أرَى بِجمِيلِ الظَّنّ ما اللهُ صانعُ

أرَى بِجمِيلِ الظَّنّ ما اللهُ صانعُ!

أرَى بِجمِيلِ الظَّنّ ما اللهُ صانعُ!

 عمان اليوم -

أرَى بِجمِيلِ الظَّنّ ما اللهُ صانعُ

بقلم:تركي الدخيل

وَإِنِّي لأَرْجُو اللَّهَ حَتَّى كَأَنَّنِي أَرَى بِجَمِيْلِ الظَّنِّ مَا اللَّهُ صَانِعُ

هذا بيتٌ من الشّعرِ يكادُ يُلامِسُ عَنَانَ السَّمَاءِ بِجَمَالِ ألفَاظِه، وَرِقَّةِ مَعانِيه. يُنسَبُ البيتُ غَالباً إلى مُحمد بنُ وُهيبٍ الحِمْيَرِيّ، البَصرِيّ، وهوَ شَاعِرٌ عَبَّاسِيٌّ مَطْبوُعٌ، عَاشَ بِبغدادَ، ومَدَحَ المأمونَ والمُعتصمَ، وعُهِد إليهِ تأديبُ أبنَاءِ الوُزراءِ، وكَانتْ وَفَاتُه نَحوَ عامِ 225هـ (840م). والبيتُ لَا يُعبّرُ فَقَط عن حُسْنِ الظَّنِ بِاللَّهِ، بلْ يُصَوّرُ حَالَةً مِن الإيمَانِ العَمِيقِ عندَ الشَّاعِرِ، الّذِي يَصِلُ إلى دَرجَةِ اليَقينِ بِاللَّهِ، حَتَّى إنَّ قَائلَهُ مِن يقينِه يَتَخَيَّلُ كَيفَ سَيَكُونُ صَنيعُ اللهِ واستجَابتُهُ لِمَنْ يَرجُوهُ وَيدعُوهُ سُبْحَانَهُ. كَأَنَّ كَلِمَاتِ الشَّاعِرِ انْعكَاسٌ جَلِيٌّ لِتَوجِيهِ النَّبِيّ ﷺ القَائِل: «ادعوا اللهَ وأنْتُمْ مُوقِنُونَ بِالإجَابَة».

لَيسَ الرَّجاءُ هُنَا أُمنِيَّةً بَعيدةَ المَنَال، بل يَقينٌ يَستَقِرُّ فِي قَلْبِ صَاحِبِه، وبِه يَرَى الشَّاعِرُ الإجَابَةَ قبلَ وُقُوعِهَا، وَكَأَنَّ الثّقَةَ بِاللَّهِ تَصْنَعُ صُورَةً حَيَّةً، تَجْعَلُ الانتِظَارَ يَحْمِلُ طَعْمَ اليَقِينِ، الّذِي يَمْلَأ الكِيَانَ بِالطُّمَأنِينَة. وَأَكَّدَ الشَّاعِرُ فِي صَدْرِ البَيْتِ أنَّه يرجُو اللهَ، تأدُّباً معَ اللهِ، ومِنْ قُوَّةِ الرَّجَاءِ، بَلَغَ يَقِيناً أوْصَلَهُ إلَى ظَنّهِ بِرَبّهِ ظَنّاً جَمِيلًا، مِمَّا جَعَلَهُ يَتَأَكَّدُ مِن الاستجابَةِ، لَكنَّهُ يَتَرَقَّبُ مُشَاهَدَةَ شَكْلِ تَلبِيةِ اللهِ نِداءَ عَبدِه، وصورةَ استجابتِهِ لِهذهِ الدَّعوَةِ، الصَّادِرةِ عَمَّن يَثِقُ بِرَبّهِ، ويَجزمُ بِعَظِيمِ كَرَمِهِ سُبْحَانَهُ. تَعدَّدتْ نِسبَةُ هذَا البَيتِ في كُتبِ التُّراثِ، مِمَّا يَدُلُّ علَى مَكَانتِهِ الأدَبيَّة. فَقدْ ذَكرَهُ ابنُ عَبدِ رَبِّهِ في «العِقْدِ الفريد» دونَ أنْ ينسُبَه لِقَائِلٍ مُحَدَّدٍ، لَكِنَّهُ وَصَفَهُ بِأَنَّهُ مِنْ أَحسَنِ مَا قِيلَ فِي الرَّجَاءِ. أمَّا المُبَرِّدُ فَقدْ نسبَهُ في «الكامل» إلَى مُحَمَد بنِ وُهَيب. هَذهِ الحَيْرَةُ فِي نِسبَةِ البَيْتِ تُضيفُ إليهِ سِحْراً خَاصّاً، وَكَأنَّهُ مِنْ تِلكِ الحِكَمِ الّتِي تَفِيضُ مِن القُلُوبِ، فَتَنتقِلُ عَبْرَ الأَجْيَالِ دونَ أنْ تُنسَبَ لِصَاحِبٍ بِعينِهِ. وَجَدتُ مَنْ نَسَبَ البَيتَ مرةً إلَى مِسكِينٍ الدَّارِمِيّ، ومرةً قيلَ إنَّه فِي شِعرِ مُحمَّدِ بنِ حَازِمٍ البَاهِلِيّ، ومَرَّاتٍ عِدَّةً، يُنْسَبُ البَيْتُ بِكُلِّ اعْتِدَادٍ وثِقةٍ إلَى مُحَمَّدٍ بنِ وُهَيْب، مِمَّا يَجْعَلُنِي أَجْزِمُ بِأنَّ البَيْتَ مِنْ شِعْرِه، لَا مِنْ شِعْرِ غَيْرِه، فَالخِلَافُ فِي نِسْبةِ البَيْتِ لَا يَرْتَقِي لِلشَّكِ فِي أنَّ البَيْتَ لابنِ وُهَيْب. هَذَا البَيتُ ليسَ مُجَرَّدَ نَصٍّ شِعْرِيّ اعتيَادِيّ، بل هوَ دَعوةٌ للتَّأمُّلِ فِي عَلاقَةِ الإنْسَانِ بِرَبِّه. كيفَ يُمكنُ لِحُسْنِ الظَّنِ بِاللَّهِ أنْ يَرفَعَ الإنسَانَ فوقَ مَخَاوفِهِ وَأعْبَائِهِ، وَكَيفَ أنَّ الدُّعَاءَ، حِينَ يَصْحبُه الإيمَانُ، يُصبِحُ قُوةً رُوحِيَّةً تُلينُ أصْعَبَ الظُّرُوفِ.

فَي كُلّ مَرَّةٍ يُقرأ فيهَا هذَا البَيتُ، يُصبِحُ رِسَالَةً مُتَجَدّدَةً، تُذَكِّرُ بِدرجَاتٍ رَفِيعَةٍ فِي العَلَاقَةِ بَينَ العَبْدِ ورَبِّه، فِيهَا مِنْ حُسْنِ الظَّنِ بِاللَّهِ، وَقُوَّةِ اليَقِينِ بِالخَالِق، مَا يَجعَلُ المَخلُوقَ فِي رَاحَةٍ وَطُمَأنِينَةٍ وَبُحبُوحَةٍ بِمَا يَرجُوهُ مِنْ أَكْرَمِ الأكْرَمِينَ.

كَانَ ابْنُ عَائِشَةَ الْقُرَشِيُّ يَقُولُ:

«لَأَنَا بِوِجدَانِ الْكَلَامِ أسَرُّ مِنّي بوجدَانِ ضَالَّةِ النِّعَم، فَإِذا قِيلَ لَهُ: مثلُ مَاذَا؟

قَالَ: مثلُ قَولِ ابْنِ وُهَيْبٍ الْحِمْيَرِيّ:

وَإِنِّي لَأرجُو اللهَ حَتَّى كأنَّنِي أرَى بِجَمِيلِ الظَّنِ مَا اللهُ صَانعُ».

فَمَا أجْمَلَ هذَا البَيْتَ الّذِي يعيدُ إلينَا، وَسطَ تَعقِيدَاتِ الحَيَاةِ، فِكرةً بَسِيطةً وَعَمِيقَةً فِي الوَقْتِ نَفْسِه؛ فَأبْوَابُ السَّمَاءِ مُشْرَعَةٌ لِمَن يَطرُقُهَا بِثِقةٍ، وَحُسْنُ الظَّنِ بِاللَّهِ أعْظَمُ مَفَاتِيحِ أبْوَابِ السَّمَاءِ.

 

omantoday

GMT 20:46 2025 الإثنين ,13 كانون الثاني / يناير

المصداقية كلمة السر لصناع القرار

GMT 20:45 2025 الإثنين ,13 كانون الثاني / يناير

طريق الخسائر والكبائر

GMT 20:45 2025 الإثنين ,13 كانون الثاني / يناير

عون رئيساً لاسترداد لبنان

GMT 20:44 2025 الإثنين ,13 كانون الثاني / يناير

الدبلوماسية العربية ــ الدولية وجمهورية لبنان الثالثة

GMT 20:43 2025 الإثنين ,13 كانون الثاني / يناير

عجائب الزماني... لابن الأصفهاني

GMT 20:42 2025 الإثنين ,13 كانون الثاني / يناير

المشهد اللبناني... واليوم التالي للمنطقة

GMT 20:41 2025 الإثنين ,13 كانون الثاني / يناير

كرة القدم... نقطة تجمع وطني

GMT 20:40 2025 الإثنين ,13 كانون الثاني / يناير

«مكرم هارون»... واحدٌ من النبلاء

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

أرَى بِجمِيلِ الظَّنّ ما اللهُ صانعُ أرَى بِجمِيلِ الظَّنّ ما اللهُ صانعُ



أحلام بإطلالات ناعمة وراقية في المملكة العربية السعودية

الرياض ـ عمان اليوم
 عمان اليوم - الصحف العالمية تتناول تحديات وآمال رئاسة جوزيف عون في لبنان

GMT 20:23 2025 الإثنين ,13 كانون الثاني / يناير

أخطاء شائعة تؤثر على دقة قياس ضغط الدم في المنزل
 عمان اليوم - أخطاء شائعة تؤثر على دقة قياس ضغط الدم في المنزل

GMT 20:23 2025 الإثنين ,13 كانون الثاني / يناير

أخطاء شائعة تؤثر على دقة قياس ضغط الدم في المنزل

GMT 17:31 2020 الجمعة ,28 شباط / فبراير

يولد بعض الجدل مع أحد الزملاء أو أحد المقربين

GMT 14:50 2019 الثلاثاء ,02 إبريل / نيسان

حافظ على رباطة جأشك حتى لو تعرضت للاستفزاز

GMT 09:21 2020 الجمعة ,30 تشرين الأول / أكتوبر

حظك اليوم الجمعة 30 أكتوبر / تشرين الأول لبرج الميزان

GMT 21:01 2020 السبت ,05 كانون الأول / ديسمبر

يبشّر هذا اليوم بفترة مليئة بالمستجدات

GMT 04:38 2020 الإثنين ,02 تشرين الثاني / نوفمبر

حظك اليوم برج الميزان الاثنين 2 تشرين الثاني / نوفمبر 2020

GMT 05:19 2023 الخميس ,21 كانون الأول / ديسمبر

القمر في منزل الحب يساعدك على التفاهم مع من تحب

GMT 16:04 2019 الخميس ,01 آب / أغسطس

تمتع بالهدوء وقوة التحمل لتخطي المصاعب

GMT 09:41 2019 الخميس ,01 آب / أغسطس

تعيش أجواء مهمة وسعيدة في حياتك المهنية

GMT 12:27 2019 الخميس ,05 أيلول / سبتمبر

السعودية تستضيف نزال الملاكمة الأهم هذا العام
 
syria-24

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

omantoday Omantoday Omantoday Omantoday
omantoday omantoday omantoday
omantoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
oman, Arab, Arab