إنَّما المَرءُ حديثٌ بعدَه

إنَّما المَرءُ حديثٌ بعدَه

إنَّما المَرءُ حديثٌ بعدَه

 عمان اليوم -

إنَّما المَرءُ حديثٌ بعدَه

بقلم:تركي الدخيل

وَإِنَّمَا المَرءُ حَديثٌ بَعدَهُ

فَكُنْ حَدِيثاً حَسَناً لِمَنْ وَعَى

هذَا بيتٌ من أبيَاتِ قَصِيدةِ ابنِ دُريدٍ المشهورةِ، التي تضمّ 253 بيتاً، وتُسمَّى القَصِيدةَ «المقصورَة»، لأنَّ رَوِيَّها ألفٌ لَيِّنَةٌ (ألف مقصورة).

وَمَع أنَّ غَرَضَ القَصِيدَةِ الرَّئيسَ كَانَ المَدحَ، إلَّا أنَّ الشَّاعِرَ اغْتَنمَ كُلَّ فُرْصَةٍ واتَتْهُ، ليَبُثَّ الحِكْمةَ في ثَنَايَا مقصُورتِه.

«المَرْءُ»: الإنسَانُ. والمَرْءُ عِنْدَ التَّعْرِيفِ، وامْرُؤٌ عِنْدَ التَّنْكِيرِ، لَفظَةٌ مُشتَقَّةٌ من المُروءَةِ، كَمَا أنَّ لفظةَ الإنسَانِ مشتقةٌ مِن الإنسَانِية، والإنسانيةُ مصدرٌ صناعيٌّ، ومِنَ النَّاحِيةِ المَنْطِقِيَّة لا الاشتقاقيةِ فَإنَّ الإنسَانِيَّةَ هيَ المُشتَقَّةُ من الإنْسَانِ. والمُروءةُ كَمَالُ الرُّجولة، وليسَ للمَرءِ جَمْعٌ من لفظِه.

«حَدِيثٌ بَعْدَهُ»: أيْ بعدَ المَرءِ. والحَدِيثُ هوَ الكَلَامُ، وعَبرَه يَتَواصَلُ النَّاسُ بينَهمْ، ويتبادلُونَ الآرَاءَ، والتَّعليلَ، والأخبارَ.

«بعدَه»: بعدَ رحيلِه عَنِ الدُّنيَا بالمَوتِ.

والمَعنَى: أنَّ الإنْسَانَ يكونُ، بعدَ وفاتِه، مَوضُوعاً لِحَديثِ الأحيَاءِ، فَيَذكرُونَ ما كَانتْ عليهِ سِيرتُه، فإنْ كَانتْ سيرةَ خيرٍ، كانَ حديثُهم عنه حسناً، وإنْ كانتْ سيرةَ شرٍّ، كانَ حديثُهم عنه حديثَ ذمٍّ وقَدْحٍ.

«فكُنْ حديثاً حَسَناً»: اجعلْ مِنْ نفسِكَ بِأفعالِكَ الطَّيبةِ، خَبَراً حَسناً، بعدَ مُغَادَرَتِكَ الدُّنيَا.

و«حَسَناً»: من الحُسْنُ: وهو ضدُّ القُبْح وَنَقِيضُهُ. الأَزهري: الحُسْنُ نَعْت لِمَا حَسُن.

«لِمَنْ وَعَى»: أيْ لِمنَ حَفظَ وفَهِمَ وقَبِلَ.

الوَعْيُ: حِفْظُ القَلبِ الشَّيءَ. وعَى الشَّيْءَ وَالْحَدِيثَ يَعِيه وَعْياً وأَوْعاه: حَفِظَه وفَهِمَه وقَبِلَه، فَهُوَ واعٍ. «لسان العرب».

والوعيُ حَدَثٌ عقلانيٌّ، يُعْلِنُ بهِ المَرءُ عنْ وجودِ الأشْيَاءِ، إنَّه دليلٌ علَى حُضورِها في الكَونِ، وحضورنا. لأنّ ما لا نَعِيه، يظلّ حبيسَ ظُلمةٍ دائمةٍ، خارجَ أذهانِنَا، أيْ خارجَ الدنيا.

والمعنَى: ليس الإنسانُ إلَّا خبراً يُنقلُ، وحديثاً يُؤثَر، وقصةً تُذكَر، وسيرةً تُنشرُ، وحكاية تُروَى، ورواية تُحكَى، فاجتهِدْ واعمَلْ صالحاً، لتكونَ أحدوثةً حسنةً مُستحسَنةً، عند أُولي الألباب، الذين يتتبَّعونَ السِّيَر، وينتفعُونَ بالعِبَر، ويتَّعِظُونَ بمَن غَبَر، ويستدلُّونَ عليهمْ بالأَثَر، فيمدحُونَ ويترحَّمونَ، أو بالعكسِ. «شرحُ المقصورة الدريدِية» (عبد القادر المبارك).

الصَّحابِي المُخضرَمُ، حكيمُ العَربِ، أكثمُ بنُ صَيفي، يقولُ: «إنَّمَا أنتمْ أخبَارٌ، فطَيِّبُوا أخبارَكم».

قالَ حكيمٌ: «الأيامُ مَزَارِعُ، فمَا زَرَعتَ فيهَا حَصَدتَهُ».

وكَانَ العَلَّامَةُ، الحِبرُ، التَّابعيُّ، كَعبُ الأحْبَارِ، مَتينَ الدّيَانَةِ، مِنْ نُبَلاءِ العُلَمَاءِ، ومِنْ مَقولاتِه: «إذَا أحببتُمْ أن تعلَمُوا مَا للعَبْدِ عند ربِّه، فانظرُوا ما يَتْبَعُه من حُسْنِ ثناءٍ».

ومِنْ كِبارِ التَّابِعينَ، الإمامُ، القُدوةُ، الحُجّةُ، مُطرفُ بنُ الشخير، وكَانَ يقولُ: «عنوانُ كَرامةِ اللهِ لعَبْدِه، حُسْنُ الثَّناء عليهِ، وعنوانُ هَوانِه، سوءُ الثَّناءِ عليهِ».

وفِي المَنْحَى ذاتِه، قالَ الغنويُّ:

فإذَا بلغتُمْ أهلَكُم فتحدَّثوا ومن الحديثِ مَهالكٌ وخلودُ

وللشَّاعرِ الجَاهِلِيِّ، قطبةَ بنِ أوسِ بنِ مُحصنٍ، قولُه:

فَأَثْنُوا عَلَينَا لَا أبَا لأبيكمُ

بإِحْسَانِنَا إِنَّ الثَّنَاءَ هُوَ الخُلْدُ

أمَّا مضرسُ بن ربعي الأسَدِي، فقالَ:

فإنّي أُحبُّ الخُلْدَ لو أستَطِيعُه

وكالخُلْدِ عندي أن أموتَ ولم أُذَمْ

وكانَ أبو عمرو بن العلاء يتمثَّلُ، فيقولُ:

وسيبقَى الحديثُ بعدَك فانظر

خيرَ أحدوثةٍ تكونُ فكُنْهَا

والمعنَى ذاتُه توسَّع فيه داودُ بن جهور، فقالَ:

إذا أعْجَبَتْكَ طِباعُ امرِئٍ فكُنْه يَكُنْ مِنْكَ ما يُعْجِبُك

فليسَ على الجُودِ والمَكْرُماتِ حِجَابٌ إذا جِئْتُه يَحْجُبُك

ولأبِي الطَّيّب:

ذِكْرُ الفَتَى عُمْرُهُ الثَّاني وحاجَتُهُ

ما قَاتَهُ وَفُضولُ العَيْشِ أَشْغَالُ

ووصية أبي الحسن التهامي، ألا تطمئن للحياةِ، ولو كنتَ من نقلةِ الأخبار... يقول:

بَيْنَا يُرَى الإِنْسَانُ فِيهَا مُخْبِراً

حَتَّى يُرَى خَبَراً مِنَ الأَخْبَارِ

 

omantoday

GMT 14:29 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

الثكنة الأخيرة

GMT 14:28 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

سوريا... هذه الحقائق

GMT 14:27 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

في أنّنا بحاجة إلى أساطير مؤسِّسة جديدة لبلدان المشرق

GMT 14:26 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

مخبول ألمانيا وتحذيرات السعودية

GMT 14:25 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

التاريخ والفكر: سوريا بين تزويرين

GMT 14:24 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

إنجاز سوريا... بين الضروري والكافي

GMT 14:22 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

ليبيا: لعبة تدوير الأوهام

GMT 14:21 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

عالية ممدوح

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

إنَّما المَرءُ حديثٌ بعدَه إنَّما المَرءُ حديثٌ بعدَه



إطلالات أروى جودة في 2024 بتصاميم معاصرة وراقية

القاهرة - عمان اليوم

GMT 13:56 2024 الثلاثاء ,17 كانون الأول / ديسمبر

نصائح سهلة للتخلص من الدهون خلال فصل الشتاء

GMT 20:41 2020 السبت ,05 كانون الأول / ديسمبر

يوم مميز للنقاشات والاتصالات والأعمال

GMT 17:31 2020 الجمعة ,28 شباط / فبراير

يولد بعض الجدل مع أحد الزملاء أو أحد المقربين

GMT 14:50 2019 الثلاثاء ,02 إبريل / نيسان

حافظ على رباطة جأشك حتى لو تعرضت للاستفزاز

GMT 06:18 2019 الإثنين ,01 تموز / يوليو

تنتظرك أحدث سعيدة خلال هذا الشهر

GMT 22:59 2019 الأحد ,15 أيلول / سبتمبر

اهتمامات الصحف الليبية الأحد

GMT 12:27 2019 الخميس ,05 أيلول / سبتمبر

السعودية تستضيف نزال الملاكمة الأهم هذا العام

GMT 16:04 2019 الخميس ,01 آب / أغسطس

تمتع بالهدوء وقوة التحمل لتخطي المصاعب
 
syria-24

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

omantoday Omantoday Omantoday Omantoday
omantoday omantoday omantoday
omantoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
oman, Arab, Arab