بقلم : حاتم الطائي
أنتجتْ الثورة الصناعية الرابعة ليس فقط تقنيات وآليات عزَّزت من دور الآلة في العمل والإنتاج، لكنها أيضًا أفضتْ إلى تشكُّل عالم جديد، بمُكونات غير مسبوقة وأدوات تطوُّر مُذهلة، اتخذت صورًا عدة، ولم تقف عند حدود الواقع البشري، بل تعدَّته إلى مراحل أكثر تقدمًا في الفكر العلمي؛ فظهر لنا الذكاء الاصطناعي، وإنترنت الأشياء والروبوتات المُشغِّلة للكثير من الآليات والمعدَّات من حولنا.
واستفادتْ دول العالم قاطبة من التكنولوجيات التي أوجدتها الثورة الصناعية الرابعة، ورغم أنَّ نسب الاستفادة متفاوتة، إلا أنَّها أسهمتْ في تطور المجتمعات، وحققت نهضة واسعة النطاق في العديد من المجالات؛ فالذكاء الاصطناعي يجري توظيفه في مهام نوعيَّة، بدءًا من رسائل الواتساب وحتى برمجيَّات التنبؤ بالوفيات الناتجة عن فيروس كورونا المستجد. فما من دولة الآن حول العالم تقريبا، إلا وتستخدم تطبيقات الذكاء الاصطناعي في دفع مسيرة التنمية إلى الأمام، ونحن هنا في السلطنة -ولله الحمد- نعمل على توظيف هذه التطبيقات في الكثير من المجالات وقطاعات العمل. والمتأمل لتفاصيل الرؤية المستقبلية "عمان 2040"، يجد أنها ترتكز على 4 محاور رئيسية: مجتمع إنسانه مبدع، وبيئة عناصرها مستدامة، ودولة أجهزتها مسؤولة، واقتصاد بنيته تنافسية، وتلك المحاور الأربعة ستعتمد -فيما تعمد عليه لتطبيق الرؤية- على الذكاء الاصطناعي، وهو ما بدا واضحا من خلال توجه مؤسسات الدولة نحو دعم السياسات الداعمة للتطور التقني.
الابتكار والبحث العلمي
وأضربُ هنا مثالا بالإستراتيجية الوطنية للابتكار، والإستراتيجية الوطنية للبحث العلمي والتطوير 2040، وهما الإستراتيجيتان اللتان ستمهدان لنقلة نوعية في جوانب الابتكار والبحث العلمي والتطوير، ويعوَّل عليهما الكثير لدفع مسيرة التطور التقني في البلاد.
لكن يظل السؤال المطروح: ما هي الآلية التي من شأنها أن تعكس تطورات هذه الثورة الصناعية علينا من الناحية المجتمعية؟ أو بصيغة أخرى: كيف تستفيد الدول والمجتمعات من هذه التقنيات المتطورة؟ وللإجابة عن هذا التساؤل ينبغي أولًا: معرفة مدى استعدادنا واستعداد طاقاتنا البشرية -وخاصة الشباب- للتعاطي مع التطورات التكنولوجية في مختلف المجالات. الواقع يشير إلى أنَّ مؤسسات التعليم العالي في عُمان -إلى جانب البعثات الخارجية للطلاب- تشتمل على تخصصات تقنية، لكن الصورة العامة توضح أن هذه التخصصات ليست على درجة واحدة من العمق والتقدم في مستوى الدراسة والمنهاج العلمي. فما يمكن أن يتم تقديمه في إحدى مؤسسات التعليم العالي لا يُضاهي ما يتم دراسته في جامعة صينية أو أمريكية، في حين تتوافر فرصة أفضل لطلابنا المبتعثين للخارج. وهذا يدفعنا إلى ضرورة تطوير المناهج في البرامج الأكاديمية المتعلقة بالتكنولوجيا، ومواكبة أحدث البرامج عمليًّا ونظريًّا، فما الفائدة من إحدى جامعاتنا تدرِّس الذكاء الاصطناعي نظريًّا، لكنها بعيدة كل البعد عن تطبيقاته، باستثناء حالات محدودة وعلى نطاق ضيق لا يتجاوز جدران المختبرات!
ثاني العوامل التي يتعين علينا النظر فيها للإجابة عن السؤال المطروح: هو تطبيقات التكنولوجيا في بيئة الأعمال والعمل الحكومي اليومي. ومرة أخرى نعود للواقع الذي يظهر بجلاء أنَّ عددا من الوزارات والمؤسسات نجحتْ بدرجة كبيرة في توظيف التكنولوجيا، ورسَّخت أقدامها في مجال الحكومة الإلكترونية، في حين أنَّ جهات أخرى عديدة لم يكن لها أي نصيب في ذلك، حتى إنَّ المراجِع عندما يذهب لتخليص معاملة حكومية، يجد نفسه يجوب دهاليز المؤسسة الحكومية بحثا عن توقيع مسؤول أو الحصول على ختم ما!! وتلك من المفارقات التي تشير إلى أنَّ التحول الرقمي لا يزال يواجه تحديات عدة؛ أقلها: عدم حرص رؤساء هذه المؤسسات على تطبيق هذا التحول الرقمي. الشق الآخر من الصورة الواقعية، يشير إلى المواهب الشابة التي أخذتْ على عاتقها مسؤولية تطوير ذاتها، ودرست واجتهدت، وتعلمت من خلال الفضاء الإلكتروني الشاسع، سواء عبر دروس تعليمية مجانية على يوتيوب، أو من خلال المشاركة في محاضرات نوعية مدفوعة على الإنترنت؛ فواصلوا رحلة كفاحهم ونجحوا في تقديم ابتكارات وتقنيات وتطبيقات متطورة. ولم يقف هؤلاء المبدعون عند هذا الحد، بل شقوا طريقهم نحو المجد، ووجدوا الدعم والتحفيز من مؤسسات؛ مثل: الصندوق العُماني للتكنولوجيا، ومؤخرا وزارة التقنية والاتصالات. وتجلَّت إبداعات وإسهامات هؤلاء المبتكرين في ظل جائحة كورونا، والتي دفعتهم للتفكير العميق في كيفية الاستفادة من تقنيات الثورة الصناعية الرابعة، لخدمة وطنهم؛ فأنتجوا تطبيقات تسهِّل على الناس التواصل، وتقدِّم الخدمات فقط بلمسة واحدة على التطبيق.
التطبيقات الرقمية
وقد تجلَّى بوضوح أهمية التطبيقات الرقمية والتقنيات التكنولوجية في تيسير التعليم عن بُعد، وهو أمر بالغ الأهمية؛ فبإمكان الطالب في عُمان أن يتلقَّى أكثر العلوم تطورا، ويحصل على أعلى الشهادات من الولايات المتحدة أو اليابان دون أن يتحرك من منزله.
ومن هنا، يُمكن القول إنَّ انعكاسات الثورة الصناعية الرابعة على مجتمعنا تحقَّقت بفضل جهود شبابنا المكافح، والدعم من جهات حكومية تأسست قبل سنوات قليلة، لكنها نجحت في أن تضع موطأ قدم لها في مجال عملها. ولعل أبرز انعكاس لتطبيقات الثورة الصناعية الرابعة علينا في عُمان، مباركة مجلس البحث العلمي قبل أيام إنشاء "مركز تميز شبكات الجيل الخامس وإنترنت الأشياء"، وهو المركز الذي سيتلقى التمويل من الهيئة العامة للتخصيص والشراكة، وسيعمل على تطوير وتوطين التقنيات الحديثة. وهذا المركز يمثل تحولا نوعيا -بمعنى الكلمة- في جهود الاستفادة من التقنيات المتطورة، بل وتوطينها، بدلا من أن نظل مستوردين لهكذا تقنيات. علاوة على أن هذا المركز يترجم جهود الشراكة بين القطاعين العام والخاص، وسيكون ضمن باكورة مشروعات الهيئة العامة للتخصيص والشراكة في هيكلتها الجديدة.
ومهارات المستقبل التي نتحدث عنها لا تنحصر فقط في توطين التقنيات الحديثة وتطويرها بأيدٍ عمانية مبدعة، لكن أيضا نقل ثقافة العمل الجديدة إلى الشباب، والانتقال نحو مسارات عمل أكثر تقدما؛ إذ إننا لن نتقدم إلى الأمام سوى باقتحام شبابنا لكل ميادين العمل، والتكنولوجيا الحديثة سهَّلت آلية ممارسة مختلف الأعمال؛ فلا يُمكن بعد الآن -وفي ظل الطفرة التقنية- أنْ يرفض شاب العمل في وظيفة ما لأنه يسعى لوظيفة حكومية في مكتب مغلق! فتوطين وتعمين جميع الوظائف بات ضرورة وطنية، قبل أن يكون وسيلة لحل تحدي الباحثين عن عمل؛ فالوطن أولى بأبنائه، وهم الذين ينبغي عليهم أن يقودوا مسيرة العمل في مختلف القطاعات، وليس فقط في الوظائف الإشرافية أو الإدارية كما يتحدث البعض.
وختاما.. بناء المستقبل يبدأ اليوم، ونعيش الآن فرصة مواتية للإسراع في تنفيذ الخطط التي تعيننا على الانتقال نحو المستقبل الذي نُريد؛ ففي ظل جائحة كورونا بات العالم أسرع مما نتخيَّل، وما كان يستغرق منا سنوات وعقودًا لتنفيذه، بات من الممكن تحقيقه في غضون أشهر قليلة، فقط بالإرادة والصبر والتخطيط المُحكم، والتفاني في العمل والمثابرة المستمرة، نبلغ طموحاتنا ونحقق تطلعاتنا لغد أكثر ازدهارا لعُمان وطن الخير والنماء.
جريدة الرؤيه