ما بين لبيد بن ربعية ولبيد بن مبارك من وصال

ما بين لبيد بن ربعية ولبيد بن مبارك من وصال

ما بين لبيد بن ربعية ولبيد بن مبارك من وصال

 عمان اليوم -

ما بين لبيد بن ربعية ولبيد بن مبارك من وصال

بقلم : محمود الرحبي

لا شكّ في أن صديقنا الكاتب الراحل مبارك العامري استحضر في ذهنه، وهو يطلق اسم “لبيد” على ابنه السّابع، الشاعرَ الجاهلي لبيد بن ربيعة العامري. ولكنْ هل كان يعرف أنّ القدر سيقود ابنه هذا إلى أن يصير شاعرًا مثل لبيد، صاحب المعلّقة المعروفة!؟
ولأنه لم يكن مجرّد أب بالنسبة إليه، بل رفيقَه و”مصوره” في حلّه وترحاله، ما يعكس “صداقة” بينهما تجاوزت حدود الأبوة والبنوة، لم يفتأ لبيد يعتمد صورة والده في صفحته في “فيسبوك”. كما أصرّ على أن يُصدر ديوانه الأول وأبوه لا يزال على قيد الحياة، وهي مبادرة تشفع له هذا “التسرّع” في الإصدار، رغم أن من يقرأ ديوانه “بوسعي أن أقول” (دار “الآن ناشرون” في الأردن) بتمعّن لن يفوته الوقوف على موهبته الكامنة.
وإذا أمكننا أن نسِم لبيد بن مبارك بـ”الأبوي”، فإنّ لبيد الجاهلي (لبيد بن ربيعة) صاحب المعلقة الشّهيرة، يمكن عدّه -ويا للَمفارقة والغرابة- “مرجعا” قائما في “الأمومة”.
والحقيقة أن هذه المعلقة، التي قال لبيد في مطلعها: عَفَتِ الدّيارُ محَلّها فَمُقامُها/ بمنىً تأَبّدَ غَولُها فَرِجامُها/ فَمَدافِعُ الرّيانِ عُرِّيَ رَسمُها/ خَلَقاً كَما ضَمِنَ الوُحِيَّ سِلامُها.. واحدة من المعلقات الأثيرة بالنسبة إلي، بفضل ما تزخر به من صور ومجازات بليغة جعلت شاعرًا كبيرًا مثل الفرزدق وهو يقرؤها يخرّ ساجدًا حين تلا منها هذا البيت (الذي سأعود إلى تأمّله لاحقا في هذا المقال لاستجلاء براعته وعبقرية قائله): “وجَلَا السُّيُول عَنِ الطّلول كأنّها/ زُبُرٌ تُجِدّ مُتُونَهَا أَقْلَامُهَا”.. ولما أنكر عليه مَن حضروا ذلك المجلس، قال: “ما بكم! أنتم تعرفون سَجَدات القرآن، وأنا أعرف سَجَدات الشِّعْر، وهذا مَوضعُ سجْدَة!”.. لكن الأهمّ أنّ في هذه المعلقة، ذات الثمانية وثمانين بيتا، قسما وافرا يتحدّث عن الأمومة، التي خصّص لها لبيد في قصيدته هذه سبعة عشر (17) بيتا في وصف مهًا تبحث عن رضيعها الذي اقتنصه الصّيادون وهي بعيدة عنه. فظلت تبحث عنه طوال سبع ليال، والشاعر يصفها في كل خطوة؛ ما رشّح هذه المعلقة لأن تكون “مرجعا” في الأمومة بامتياز. إذ استعار الشاعر صورةَ مها عربية أصيلة قنص الصّيادون رضيعها وقد تركته يرعى، فلبث لبيد يتعقب خطواتها وحالتها النفسية بوصف أخّاذ، متحدّثا عن الأمومة في أجلّ معانيها وصورها. وظلت المها تبحث عن رضيعها وهي تنوح ويأتي المطر ويغطّيها وقلقها سافر جليّ طيلة أيام وليال، إلى أن صادفت صيادين فهجمت عليهم فأطلقوا عليها كلابهم، لكنها قتلت منها اثنين. لقد كانت المها تنتقم لمقتل وليدها أمام عيني الشّاعر الراصدة، كما كاميرا مخفية، في مشهد شبيه بما نرى في أيامنا هذه في برامج تتبّع الحيوانات، والتي تُلتقط صورها ومشاهدها بصبر وطول انتظار كل تحرّكات الحيوانات.. ومثل هذا فعل لبيد، لكنْ قبل قرون عديدة، بواسطة اللغة وصوره الشّعرية البديعة.
يقول الشاعر واصفا المها كـ”جمانة” (لؤلؤة) انفردت ليلا من عقدها ” أي من القطيع”: وتضيء في وجه الظلام منيرة/ كجمانة البحريّ سلّ نظامها.
وأذكر هنا أن الشاعر العراقي صلاح نيازي قال في مقال عن هذه المعلقة العظيمة “نحن أمام قِبلة شعرية مرهوبة تُورّث الخشوع، أمام لوحة جدارية مسحورة لا تزال طرية لم تجفّ أصباغها بعدُ، مسلة كل عصر التقنيات الفنية. أما بناؤها فيندرج في عملية نمو نباتي تحت ريشة رسّام، تتوالد فيها الخطوط والألوان بالتدريج. فالمعلقة تدشن، بالتالي، أول المفاهيم عن القصيدة العضوية كما نفهمها في الوقت الحاضر”.
والحقيقة أن شعراء قلائل يتمتعون بهذا الثراء المدهش في استعمال الحواس، وأقل من ذلك من وُلدوا بهذه الفطرة الشعرية العجيبة.. قصيدة عامرة بالأنوثة، بل تنوعت بأمومات بصيغة الجمع، لم يسبق لها مثيل في نص آخر.. وقد قام المشهد الأول على صوت رعد إيذانا بعملية خلق وإنجاب.. وكأنها بمثابة الضّربات التي تسبق رفع الستار عن خشبة المسرح قبل بداية “العرض”.
وبالعودة إلى البيت الذي سجد له شاعر كبير كالفرزدق، فهو زاخر بالدلالات، إذ شبّه فيه الشاعر الريح وهي تسفو الرّمال لتَبين بقايا أطلال بيت الحبيبة “نوار”، شبّهه بمن يحاول أن يخط بالقلم- أي أن يجد أي يجدد بالقلم – على آثار ممحوة في الكتاب حتى يتبينَ معناها.
إن هذا البيت تحديدا مفعم بالبلاغة إلى درجة أنه يُرغم قارئه على إعادة قراءته مرارًا، وإن كانت قصيدة لبيد عمومًا زاخرةً بالصور والمجازات والوصف الدقيق والمكثّف، وليس فقط هذا البيت. ففي معظم أبيات المعلّقة صور وصْفية بديعة قلما جادت بنظيرها قريحةُ شاعر عربي.

نقلا عن جريدة عمان

omantoday

GMT 19:41 2024 الخميس ,17 تشرين الأول / أكتوبر

مجالس المستقبل (1)

GMT 19:20 2024 الخميس ,17 تشرين الأول / أكتوبر

البحث عن مقبرة المهندس إيمحوتب

GMT 15:41 2024 الأحد ,14 تموز / يوليو

موسم انتخابى كثيف!

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

ما بين لبيد بن ربعية ولبيد بن مبارك من وصال ما بين لبيد بن ربعية ولبيد بن مبارك من وصال



إطلالات أروى جودة في 2024 بتصاميم معاصرة وراقية

القاهرة - عمان اليوم

GMT 13:56 2024 الثلاثاء ,17 كانون الأول / ديسمبر

نصائح سهلة للتخلص من الدهون خلال فصل الشتاء

GMT 20:41 2020 السبت ,05 كانون الأول / ديسمبر

يوم مميز للنقاشات والاتصالات والأعمال

GMT 17:31 2020 الجمعة ,28 شباط / فبراير

يولد بعض الجدل مع أحد الزملاء أو أحد المقربين

GMT 14:50 2019 الثلاثاء ,02 إبريل / نيسان

حافظ على رباطة جأشك حتى لو تعرضت للاستفزاز

GMT 06:18 2019 الإثنين ,01 تموز / يوليو

تنتظرك أحدث سعيدة خلال هذا الشهر

GMT 22:59 2019 الأحد ,15 أيلول / سبتمبر

اهتمامات الصحف الليبية الأحد

GMT 12:27 2019 الخميس ,05 أيلول / سبتمبر

السعودية تستضيف نزال الملاكمة الأهم هذا العام

GMT 16:04 2019 الخميس ,01 آب / أغسطس

تمتع بالهدوء وقوة التحمل لتخطي المصاعب
 
syria-24

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

omantoday Omantoday Omantoday Omantoday
omantoday omantoday omantoday
omantoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
oman, Arab, Arab