بقلم:سام منسى
بقدر ما يصعب تجاهل مجريات الأحداث في لبنان، يصعب أيضاً تناول الحياة السياسية فيه، نظراً لخلو السياسة من السياسة. جُل ما يدور لا يتعدى المماحكات وتسجيل المواقف، وحتى التنمر، أكثر مما هو سجال سياسي بالمعنى المتعارف عليه.
يمكن اختصار السمة السائدة بمشهدين مأساويين، يستحضر الأول من الذاكرة المثقلة حروباً ومواقع وشهداء وانتصارات، لينحت منها تاريخاً على قياسه ووفق مشاربه، ويتطلع إلى مستقبل وفق عقيدة تخط أنماطاً متشددة في الدين والسياسة والاقتصاد والاجتماع. منصته المهرجانات الحاشدة التي تذكِّر بأنظمة الاستبداد من موسكو السوفياتية إلى برلين النازية وبيونغ يانغ وبكين ماو تسي تونغ. حشود تستميت وتستشهد وراء القائد في مشهد يتكرر بوتيرة شهرية تقريباً، ويبعث لدى الشركاء في الوطن شعوراً وكأنهم في غربة عن هذا النسيج الاجتماعي المستجد.
المشهد الثاني المقابل يغرف بتعجل من الماضي القريب والبعيد، ويكاد يعيش في فقاعة من الذكريات وبحنين مَرَضي إلى زمن الحرب الأهلية، فيردد موسيقاها وأناشيدها ويرفع صور قادتها وشهدائها، ويستعرض مشاهد معاركها. خطاب هذا المعسكر موغل في التمسك بالرموز الدينية والطائفية وحتى المذهبية في أحيان كثيرة، عاجز عن اقتحام الفضاء الوطني. يتطلع إلى المستقبل بعدسات الانطواء والعزلة التي سبق واختبرها عبر اجتراح مشاريع حلول متخيلة.
لسنا في معرض مساواة الخطابين أو المشهدين، ولا الدفاع عن صاحب المشهد الأول أو حتى تبرير مواقفه وتفهمها، وهو الممانع الإيراني الهوى، العابر للوطن، المتجاوز لكل معايير السيادة والاستقلال والقرار الحر والممارسة الديمقراطية المتداولة في غالبية دول العالم الحر. له قاموسه وتفاسيره ومفاهيمه الخاصة لكل هذه المفردات ومعانيها، ويحاول فرضها بقوة سلاحه على الفريق الآخر، ولا يخفي تبعيته المطلقة لمرجعيته خارج الوطن.
ما يعنينا في هذا المجال هو أصحاب المشهد الثاني الذين يفترض بهم أن يحملوا على عاتقهم مهمة إخراج البلاد من هذا النفق المعتم. هم غارقون في مشكلات جانبية، كتلبية الدعوة للحوار المعروفة سلفاً خواتيمه أو عدمها، أو انتخاب رئيس للجمهورية أو عدمه، مع كون الرئيس -كائناً مَن كان- عاجزاً عن تغيير حرف من القاموس الممانع والمهيمن. فمن دون اجتراح تسوية تطول المشكلة، وهي استعادة الدولة والقرار الحر، وحل لوجود ودور السلاح غير الشرعي، فكل ما عدا ذلك مضيعة للوقت وهدر للطاقات. ومن هذه الزاوية تبرز إشكالية أداء القوى المعارضة؛ لا سيما القوى المسيحية، كون أهل السنة لم يستفيقوا بعد من هول ما تعرضوا له منذ سنة 2005، باغتيال الرئيس رفيق الحريري وغزوة بيروت سنة 2007، والأقلية الشيعية المعارضة لـ«حزب الله» مهمشة وضعيفة. وذلك ما يضع العبء كله على عاتق القوى المسيحية التي مُنيت بدورها بالهزيمة مرتين متتاليتين، الأولى يوم توقيع تفاهم مار مخايل بين «التيار الوطني الحر» و«حزب الله» سنة 2006، والثانية إبان تسوية سنة 2016، والتوافق المشبوه على انتخاب ميشال عون زعيم التيار ومرشح الحزب رئيساً للجمهورية، بعد تعطيل غير مسبوق لانتخابات الرئاسة، وجاءت بمثابة انضمام حزب «القوات اللبنانية» إلى تفاهم مار مخايل، دون نسيان مسؤولية الرئيس سعد الحريري آنذاك.
الهدف من نكء هذه الجراح ليس الشماتة مطلقاً؛ بل ضرورة تصويب الأداء، بدءاً من مراجعة نقدية قاسية لمرحلة الحرب الأهلية، والامتناع عن استحضارها ارتجالاً -بمناسبة أو دون مناسبة- باعتبارها إنجازاً تاريخياً. هذا لا يعني أن القوى المسيحية ذهبت حينها إلى خيار السلاح والميليشيات هياماً بالحرب والقتال؛ بل نتيجة لممارسات المنظمات الفلسطينية التي كانت لا تُحتمل ولا تُطاق، ولدويلة ياسر عرفات التي لو قُدر لها أن تستولي على الدولة ما كانت قصَّرت. كل ذلك صحيح، إنما في المراجعة إفادة؛ لأن أحوال الحاضر لا تختلف عن أحوال الماضي، مع كل المتغيرات واللاعبين الجدد.
المراجعة تؤشر إلى أنه قبيل اندلاع الحرب الأهلية، وبعد التوقيع على اتفاق القاهرة سنة 1969، كانت الطائفة الشيعية رافضة للوجود الفلسطيني المسلح؛ لا سيما في الجنوب، ولعل تغييب الإمام الصدر سنة 1978 ليس بعيداً عن الرغبة في قلب المزاج الشيعي وأخذه إلى مكان آخر. يومها لم يفطن صانع القرار المسيحي إلى أهمية الإفادة من حال التململ الشيعية ضد الوجود الفلسطيني المسلح. كذلك مراجعة الموقف من السنة الذين على الرغم من اعتبارهم أن الفلسطينيين هم «جيش المسلمين»، فقد دفعوا بعدها أثماناً غالية، وخسروا بالاغتيالات مفتياً للجمهورية ورئيس حكومة ورموزاً دينية، مثل: الشيخ صبحي الصالح، والشيخ أنيس عساف، وسياسية، مثل: ناظم القادري، ومحمد شقير، وغيرهم. الحرب آنذاك ضد الوجود الفلسطيني المسلح كان يجب أن تكون لبنانية، وليست حرباً مسيحية فُسرت عن قصد بأنها ضد الشريك المسلم.
والشيء بالشيء يذكر. هل المعارضة «السيادية» والمسيحية بخاصة تقوم اليوم بما هو ضروري ومُلح لإنشاء تحالفات استراتيجية -ونشدد على استراتيجية- مع أهل السنة؟ البعض يرد بأن السنة مشرذمون، إنما المسيحيون مشرذمون أيضاً، ومن هنا ضرورة إيجاد خريطة طريق لتحالف بين المسيحيين المناهضين لـ«حزب الله» والسنة، تؤسس لعودة التوازن إلى الحياة السياسية، وتعيد السياسة إليها.
إلى هذا، المتغيرات الداخلية البنيوية من ديموغرافية إلى انتقال الثروة وتبخر الودائع وصولاً لانهيار المؤسسات الرسمية والخاصة، غير مشجعة، وليست في صالح المسيحيين. أما إقليمياً وبخاصة عربياً، أصبحنا في عالم آخر. الخليج العربي له أولوياته وسياساته المبنية على حماية مصالحه السيادية والوطنية أولاً، وبقية الدول العربية إما في حال نزاعات وحروب أهلية وإما تعاني مشكلات اجتماعية واقتصادية. أما الخارج الدولي من أميركا إلى الاتحاد الأوروبي، فلديهم -حتى إشعار آخر- أولوياتهم الاستراتيجية، أبرزها مواجهة روسيا والصين والتحديات الاقتصادية، علماً بأن تجارب اللبنانيين -وبخاصة المسيحيين- معهم مخيبة، منذ سنة 1983 وحتى اليوم. ولا تزال القوى «السيادية» بعيدة عن اللغتين الروسية والصينية المستجدتين علينا، ونراها في مواجهة مفتوحة غير مسبوقة مع «الأم الحنون» فرنسا المتهمة بخيانتهم مع طهران.
حذار أن تكون خيارات المسيحيين اليوم تختصر بالعودة إلى ماضي الحرب المقيت، أو الغرق في حاضر حلف الأقليات البغيض، أو الانغماس في طرح الفيدرالية العقيم، ما يؤدي إلى هزيمة مسيحية ثالثة تذهب بالكيان برمته.