بقلم:سام منسى
ليس المراد التهوين من تضحيات أهالي غزة ومن جسامة ما يحصل فيها بمواجهة آلة القتل الإسرائيلية الشرسة والعنف المفرط دون وازع ودون أي حسبان للضحايا المدنية. لكن هول ما يجري لا يحجب تفاقم موت السياسة في لبنان وهو سابق لحرب غزة، إنما بات اليوم مستفحلاً وكأن المطلوب التضحية التامة بالمسألة الوطنية على حساب المسألة الاستراتيجية، وكأن الصراع مع إسرائيل سيخلص لبنان ويمنع تمزيق أوصال الدولة، ويعالج الفقر وانسداد آفاق الحلول المرجوة للخلاص من الأزمات التي تتوالى على البلاد.
إن ما يجري في غزة توازي جسامته وتداعياته بالنسبة للعالم العربي جسامة وتداعيات الحرب في أوكرانيا بالنسبة لأوروبا، ومع ذلك، لم يحرك ذلك الساسة في لبنان واهتموا بالتافه من الأمور ونسوا الجوهر في هذه المرحلة المصيرية على المنطقة برمتها، وليس أدلّ على ذلك من النقاشات والوقائع التي تشهدها البلاد راهناً.
في النقاشات، بعد قرار «حزب الله» عدم التدخل مباشرة في حرب غزة واعتبار نفسه مجرد قوة مساندة، فشل بأول اختبار عملي لاستراتيجية «وحدة الساحات»، علت أصوات معارضيه المنتقدة متهمة إياه بالتضليل، وأن ترسانته لم تُجمع بهدف مقاومة إسرائيل بحسبه، بل لتعزيز قبضته على لبنان واستخدامها وفقاً لما تريده إيران. فات المنتقدون التفكير في الثمن الذي سيُدفّعه «حزب الله» لشركائه في الوطن نتيجة لعدم جرّه البلاد إلى حرب مباشرة مع إسرائيل، ولا شك أنه سيكون غالياً جداً. حتى الآن لا أحد يفكر في ماهية هذا الثمن وتداعياته على ما تبقى من دولة لبنانية، وإذا ما ستكون الضربة القاضية التي تذهب بما تبقى من الكيان وفق ما تأسس عليه.
وما فات كل المنتقدين أيضاً هو استيعاب جدية «حزب الله» في اعتناق عقيدته المقاومة. ما عبّر عنه رئيس كتلة نواب «حزب الله» محمد رعد في مأتم نجله عباس الذي ذهب ضحية القصف الإسرائيلي على الجنوب، سواء اتفقنا أو اختلفنا مع كلامه المفاخر باستشهاد ولده حتى الفرح، هو دليل على جدية الحزب في ممارسة السياسة والمقاومة وفق عقيدة راسخة لا تتزحزح، وهي جدية تفتقر إليها معظم الأطراف السياسية اللبنانية. ويظهر أيضاً اختلاف نهج الحزب المسيطر على البلاد ونظرته إلى السياسة ومفهوم الوطن وطبيعة المجتمع عن نظرة باقي اللبنانيين، وما قد يعنيه ذلك على مصير كل القضايا الوطنية الخلافية.
إلى هذا التهى الساسة والنخب بنقاش محتدم آخر بشأن تهديد دور «المساند» الذي أخذه الحزب على عاتقه في هذه الحرب للقرار الأممي 1701 الذي صدر إثر «حرب تموز 2006» بين «حزب الله» وإسرائيل ونص على إيجاد منطقة من الحدود إلى نهر الليطاني تكون خالية من أي مسلحين وأسلحة، باستثناء سلاح الجيش اللبناني والقوات الدولية. جدال دون جدوى ونقاش لا طائل منه لأن هذا القرار ساقط سياسياً وميدانياً قبل «طوفان الأقصى» ومساندة «حزب الله» له من جنوب لبنان. القرار 1701 لم يطبق ساعة واحدة منذ إقراره، وهذا ما تدلّ عليه كميات ونوعية السلاح والمسلحين في منطقة عمليات القوات الدولية ويقرّ به الحزب جهارة وأثبتته وقائع حرب الإسناد منذ 7 أكتوبر (تشرين الأول). وإلى جانب سقوطه عملياً، يبقى أن الدعوة إلى تطبيقه، وهي بمثابة إلغاء للحزب، دون تسوية لسلاحه ودوره المحلي والإقليمي، وهو العصب الرئيسي لقوى الممانعة في المنطقة، يعني دون مواربة نقل السلاح والمسلحين والمشكلة برمتها من الخط الأزرق إلى شمال نهر الليطاني ما قد يريح إسرائيل ويفاقم استعصاء الأزمة في لبنان ويفاقم فائض قوة الحزب السياسية في الداخل.
وسط كل ذلك، يتواصل التناحر الكيدي حول الفراغ المرتقب في قيادة الجيش بعد الفراغات المتمددة من رئاسة الجمهورية إلى الحكومة المستقيلة وحاكمية المصرف المركزي الشاغرة وغياب القضاء وتعطّل عمل الإدارة العامة، ويبدو أن ما يجري في المنطقة لم يمنع الهرولة نحو المصالح الضيقة التي تميز أداء معظم الأطراف السياسية اللبنانية. وآخر الإبداعات في هذا السياق، هو ترحيب رئيس التيار العوني جبران باسيل بالتدخل الفرنسي في انتخابات الرئاسة، ورفضه تدخلها في تعيين قائد الجيش باعتباره شأناً داخلياً!
أما في الوقائع، الحقيقة الأولى التي ظهرت هي أن حرب غزة فاقمت من التخلي الدولي والعربي عن لبنان، وجل ما يحصل اليوم من حراك دولي وخصوصا الفرنسي هدفه تجنب توسّع الحرب في غزة بالضغط لانتخاب رئيس وتشكيل حكومة من ضمنها طبعاً «حزب الله»، لعل في هذه الخطوة ما يخفف من حدة الموقف الإسرائيلي المعلن والدولي المضمر الذي يختصر لبنان بـ«حزب الله».
الحقيقة الثانية هي الغياب اللبناني الفاضح عن صناعة القرار العربي الاستراتيجي في مواجهة تداعيات حرب غزة وما يتم تداوله من حلول بمعزل عن الرابح أو الخاسر قد تأتي على حساب لبنان وتحمل معها الضربة القاصمة على اللبنانيين. فكيف ترانا نعزي أنفسنا بهذا التغييب المفجع للدبلوماسية اللبنانية إلا ما تم الاكتفاء به من شكليات عقيمة؟
إن الحرب الدائرة في غزة، وهي تقترب من نهاية شهرها الثاني، عرّت غالبية السياسيين اللبنانيين جراء تهاونهم في التحاور حول تسوية كبرى تعيد للدولة اللبنانية فاعليتها وتخرجها من هذا الترهل المعيب، وتعيد تأهيلها من أجل حماية المصالح العليا وتجاوز الفئوية والنكايات الحزبية، وهذا التشاطر اللبناني في تسديد نقاط ضد الشريك من أجل حسابات شخصية ضيقة. حسابات، من نتائجها استمرار الفراغ في المؤسسات والاستهانة بالشغور الزاحف على قيادة الجيش، ما يساهم عن قصد أو غير قصد بتحقيق أهداف الساعين إلى تقويض الدولة وهدم رموزها وكل ما يمت إلى الوطن الذي عرفناه بصلة لبناء ما يسعون إليه من دولة ووطن واقتصاد واجتماع لا يشبهون لبنان وغالبية اللبنانيين.
الخشية من موت السياسة في لبنان في مرحلة ما بعد حرب غزة وما سوف ترسو عليه، ليست في خطر انحلال الدولة الوطنية وهي الموصوفة بالفشل، بل في تكريسها نموذجاً مغايراً عن لبنان حديث وريادي، وأن ما يخيل للكثيرين بأن أحوال لبنان السقيمة مرحلة عابرة وستمضي، هو مجرد هروب من الحقيقة ومن المواجهة الجدية والرؤيوية، عبر وقفة جريئة للحيلولة دون انحلال الدولة والكيان في وقت يتفاخر بعضهم في رفض نصائح الأصدقاء.