وهْم الدولة العميقة

وهْم الدولة العميقة!

وهْم الدولة العميقة!

 عمان اليوم -

وهْم الدولة العميقة

بقلم:مأمون فندي

مزعج ومربك في آن عندما يتمكن مفهوم ما من ذهنية كثير من الكتاب العرب يكررونه تكراراً مملاً، ويدخل أحياناً في الدم فيبدو الكاتب وكأن شيطاناً قد تلبَّس عقله! ومن هذه المفاهيم التي راجت هو مفهوم الدولة العميقة. بعد أحداث «الربيع العربي» ساد مفهوم الدولة العميقة، وتردد المصطلح وكأنه مفهوم تحليلي مفيد أو مميز، رغم أن المفهوم في أصله لا يعني أكثر من «اللهو الخفي»، أو لا أعرف الأسباب، ولكنني أحب أن يكون لي رأي هو مجرد زخرف كلامي لا يعني الكثير، كما ذكرت في مقال سابق هنا عن المجتمع العميق («الشرق الأوسط»، 4 يونيو/ حزيران 2021). مصطلح الدولة العميقة، للمرة العاشرة، قادم من تجربة الدولة التركية، منذ أواخر أيام الإمبراطورية إلى دولة كمال أتاتورك، التي كان فيها حزبه يمثل دولة داخل الدولة، ثم تطور المفهوم فيما يشبه نظرية المؤامرة عن طبيعة ما يحدث داخل أجهزة الدولة من تفاعلات الأجهزة الأمنية، التي أيضاً كان يُنظر إليها على أنها دولة داخل الدولة، ومن هنا بدأ تعميم مفهوم الدولة العميقة الذي نقله الدبلوماسي الكندي بيتر دييل سكوت، الذي أصبح أستاذاً جامعياً فيما بعد، وكتب كتاباً عام 1993 بعنوان «السياسة العميقة ومقتل كيندي» نشرته جامعة كاليفورنيا.


عندما يحاول بعضنا أن يفسر انحسار التغيير في دولة ما من دول الشرق الأوسط، وغالباً عندما يكتب الفرد عن دولة لا يعرف الكثير عنها، فبدلاً من البحث والتقصي ومحاولة فهم التفاصيل تجده يلقي باللوم كله في تفسير التخلف أو الانسداد السياسي، أو حتى الفقر، على الدولة العميقة التي هي كما ذكرت آنفاً بالعامية تساوي «اللهو الخفي». إذن، بمجرد أن ترى مفهوم الدولة العميقة في مقال فاعلم أن صاحبك لا يعرف الكثير عما يتحدث عنه. فالفقر له أسبابه، ويمكن تتبع السياسات التي أدّت إلى إفقار مجتمع، أو أدّت إلى عجز في الموازنة العامة، كما أن لتخلف الدول أسباباً واضحة يمكن أن نلمسها، وهنا أقول «أسباب» تجاوزاً؛ لأننا في العلوم الاجتماعية ليس لدينا سببية واضحة كما في العلوم البحتة، ولكن لدينا عوامل ارتباط بين متغيرات. فمثلاً كلما زادت هجرة الفلاحين من أجل كسب سريع في الخارج، قلّت مساحات الأرض المزروعة وقلّ الإنتاج الزراعي، وقد يكون لهذا العجز أسباب أخرى. النقطة ببساطة هي أننا نشاهد تغيراً ما في الإنتاج الزراعي، ونحاول أن نرى ما الذي تغير في الأمور الأخرى التي قد تؤدي إلى هذا.

حكاية الدولة العميقة التي طغت كتفسير لما يدور في كثير من بلدان المنطقة، لا تعني سوى الكسل المعرفي أو الاستسهال أو الرغبة في كثير من اللغو الذي يأخذ حيزاً دونما أن يقول شيئاً.

يرى أفضل المحللين السياسيين ممن يستخدمون مصطلح الدولة العميقة أنها تعني شبكة أصحاب المصالح داخل الدولة الواحدة، والتي تخشى الشفافية أو المشاركة السياسية التي قد تؤثر على مصالحها. إذن، ما الخطأ أن نسمي ذلك بجماعات المصالح (interest groups)، وهو مفهوم قديم وفيه تراكم معرفي أفضل في أدبيات العلوم السياسية؟ لماذا كل هذا اللف والدوران لنتحدث عن أمر يمكن قياسه بأمور غائمة كالدولة العميقة؟

نضلل جيلاً كاملاً من الباحثين في العلوم الاجتماعية عندما ندفع باتجاههم مفاهيم لا يمكن قياسها بدقة، إذا كنا من المدرسة التجريبية، أو لا يمكن الإلمام بدلالاتها ومعانيها إن كنا من المدرسة الوصفية.

إن مفهوم الدولة العميقة لهو دعوة للكسل المعرفي، ودعوة لأن نعزو أسباب الظواهر الاجتماعية إلى أوهام لا تختلف عما يراه العوام حكمة عندما يفسرون كل شيءٍ بـ«اللهو الخفي» أو أعمال سفلية، وترويج هذا النوع من التحليل وتكراره في صحفنا وتلفزيوناتنا هو تسويق للغيبيات والجهل، الذي يبدو وكأنه معرفة؛ لأنه قادم إلينا من شاشات التلفزة أو الموبايل الزرقاء. المعرفة أمر يحتاج إلى جهد وتدريب على البحث والتنقيب، ولا يكفي أن يكون وهم الدولة العميقة تفسيراً لكل شيء في حياتنا.

وإذا أصر بعضنا على استخدام المصطلح، فهناك طرق كثيرة لتفكيك مفهوم الدولة العميقة إلى مكوناته الأولية؛ فمثلاً إذا كان الحديث عن أجهزة المخابرات وغيرها كما الحال في الدولة التركية التي أتى منها المصطلح، فيمكن الحديث عن هذه الأجهزة وطريقة عملها، فهي ليست صندوقاً أسود، بل هي أجهزة تهتم بجمع المعلومات وتحليلها لدرء التهديدات المحتملة والآنية للدولة وللنظام الاجتماعي، وتختلف من نظام سياسي إلى آخر، ويمكن وضعها في دراسات مقارنة. النقطة الأساسية هي: مصطلح كالدولة العميقة ليس - مفهوماً - تحليلاً مفيداً بقدر ما هو تضليل وإبعاد الباحث عن فهم الظواهر موضع التحليل. تحليل الوهم بالوهم هو تفسيري لتفشي وانتشار مفهوم الدولة العميقة.

 

omantoday

GMT 19:41 2024 الخميس ,17 تشرين الأول / أكتوبر

مجالس المستقبل (1)

GMT 19:20 2024 الخميس ,17 تشرين الأول / أكتوبر

البحث عن مقبرة المهندس إيمحوتب

GMT 15:41 2024 الأحد ,14 تموز / يوليو

موسم انتخابى كثيف!

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

وهْم الدولة العميقة وهْم الدولة العميقة



إطلالات أروى جودة في 2024 بتصاميم معاصرة وراقية

القاهرة - عمان اليوم

GMT 13:56 2024 الثلاثاء ,17 كانون الأول / ديسمبر

نصائح سهلة للتخلص من الدهون خلال فصل الشتاء

GMT 20:41 2020 السبت ,05 كانون الأول / ديسمبر

يوم مميز للنقاشات والاتصالات والأعمال

GMT 17:31 2020 الجمعة ,28 شباط / فبراير

يولد بعض الجدل مع أحد الزملاء أو أحد المقربين

GMT 14:50 2019 الثلاثاء ,02 إبريل / نيسان

حافظ على رباطة جأشك حتى لو تعرضت للاستفزاز

GMT 06:18 2019 الإثنين ,01 تموز / يوليو

تنتظرك أحدث سعيدة خلال هذا الشهر

GMT 22:59 2019 الأحد ,15 أيلول / سبتمبر

اهتمامات الصحف الليبية الأحد

GMT 12:27 2019 الخميس ,05 أيلول / سبتمبر

السعودية تستضيف نزال الملاكمة الأهم هذا العام

GMT 16:04 2019 الخميس ,01 آب / أغسطس

تمتع بالهدوء وقوة التحمل لتخطي المصاعب
 
syria-24

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

omantoday Omantoday Omantoday Omantoday
omantoday omantoday omantoday
omantoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
oman, Arab, Arab