بقلم حازم صاغية
غالباً ما تُقدَّم النساء بوصفهنّ سبب الشرّ كلّه في العالم، كما في قصّة التوراة عن الخطيئة الأصليّة، أو في إلياذة هوميروس حيث كانت امرأة واحدة تكفي لإغراق شعب كامل في البؤس (...) كذلك يُعبَّر عن نقص احترام النساء في الأجور التي تُدفع للمرأة وتقلّ كثيراً عن أجور الرجال حتّى حين يكون عملهنّ مساوياً في قيمته لعمل الرجال».
هذه الفقرة بعض ما كتبه المحلّل النمسويّ ألفرِد أدلر في 1927، فبدا بلا قياس أشدّ تقدّماً من سيغموند فرويد وكارل يونغ. والحال أنّ ثمّة من رأى أنّ المحلِّلين النفسيّين لموجة ما بعد الفرويديّة، ككارِن هورنَي وأريك فروم، هم «نِيو أدلريّين» كونهم تبنّوا، إلى هذا الحدّ أو ذاك، مفاهيمه.
وأدلر أحد أهمّ المحلّلين النفسيّين الذين أنتجهم القرن العشرون، فإذا كان فرويد ويونغ قد فاقاه شهرة، بقى أنّه «لن يكون من السهل»، كما كتب هنري إلِّنبرغر، «أن نجد مؤلِّفاً آخر استعار منه الجميع، ودون إقرار بذلك، كما نجد مع ألفرد أدلر».
لكنّ تقدّميّة الأخير لا تتجلّى فقط في مسألة المرأة. فهو جادل بأنّ المحرّك الأساس في حياة الأفراد اجتماعيّ. وفي انشقاقه عن فرويد عام 1911 رأيناه يركّز على أنّ مفتاح فهم الفرد ليس الماضي، كما علّم المؤسّس، بل الحاضر والمستقبل اللذان يمكّناننا من تعقّل كيف صرنا ما صرناه. فالماضي قد يزيد الاحتمالات أو يُنقصها لكنّه ليس حتميّ التأثير، وبالتالي فالغائيّة (teleology) ، أي دراسة الغاية وراء ظاهرة محدّدة، تفوق منظومة الأسباب (etiology) أهميّةً.
أمّا الجنس عنده فبدا أقرب إلى استعارة أو طريقة للفهم، فيما العُصاب لا ينجم عن دوافع جنسيّة مكبوتة بقدر ما يُنجبه الشعور بالنقص. وبدوره فاللاوعي ليس كياناً منفصلاً، بل هو الجزء المجهول من سعي الفرد نحو هدفه. ولئن رأى فرويد أنّ كبتنا هو طريقنا إلى التكيّف، رأى أدلر أنّنا نملك قدرة فطريّة على أن نكون اجتماعيّين، وما علينا سوى أن ننمّيها عبر تنمية حسّنا الاجتماعيّ. ذاك أنّ غياب الحسّ هذا يعني غياب الرغبة في التكيّف والاجتماع، ما يُعَدّ حالة مَرضيّة تحمل صاحبها على طلب التفوّق المطلق.
هكذا احترم أدلر الأفراد وقدرتهم على التغيّر والتغيير، ومسؤوليّتهم عن أحوالهم، بحيث أخذ عليه معلّمه السابق مدى تعويله على الوعي وعمليّاته.
وهو اهتمّ فعلاً بالسعي إلى التفوّق، لكنّ التفوّق الأدلريّ، الذي لم تغب عنه التأثيرات النيتشويّة، بقي مضبوطاً اجتماعيّاً. فهو الدافع العميق وراء السعي الإنسانيّ، إذ نحن مدفوعون إلى تحسين أوضاعنا و»التحوّل من وضعيّة الناقص إلى وضعيّة الزائد».
فمن «المثال الذاتيّ»، الذي يختاره الفرد لنفسه ويتشكّل في فترة مبكرة من الطفولة، يُنتَقى الهدف الذي يُسعى إليه ويناط به توفير التفوّق لصاحبه. أمّا نقاط الضعف التي تعترض مسيرتنا إلى ذاك التفوّق فتحرّكُ فينا مشاعر الدونيّة التي تنبع من تقييمنا لنفوسنا ولتجاربنا. وفضلاً عن جوانب القصور الجسمانيّ، كثيراً ما يثير شعورَنا بالدونيّة «دونياتٌ موضوعيّة»، كأنْ يربط المرء تفوّقه بامتلاكه المال فيما يكون فقيراً وشديد الإحساس بفقره. لكنّ ثمّة حالات أخرى من الدونيّة تصدر عن تصوّر الناس لأنفسهم على نحو مغلوط يفتقر إلى أيّ أساس واقعيّ.
والشعور بالدونيّة ليس مرضاً، إلاّ أنّه يغدو كذلك حين لا يُعترف به ولا يواجَه: فإذا خسرنا عملاً بحثنا عن عمل آخر، وإذا أعوزتنا مهارة كي نحصل على عملٍ ما تعلّمنا هذه المهارة، وقد نعوّض عن ضعف بأن نقوّي أنفسنا في مجال آخر، فنطوّر قدرتنا على قراءة الشفاه إذا أصابنا ضعف في السمع. هكذا نواجه دونيّتنا مع ما يستدعيه ذلك من امتلاكنا شجاعة التغيير.
لكنّنا قد نتجنّب المشكلة بإنكارها وباللجوء إلى سلوك حمائيّ يردّ الفشل إلى عوائق تقع خارج السيطرة (ممّا تزخر بمثله الثقافة السياسيّة العربيّة). وقد يلجأ صاحب السلوك الحمائيّ إلى أسباب مزعومة، فيزيائيّة (وجع الرأس أو تعب مزمن) أو نفسيّة (غضب، توتّر)، أو يبحث عن مسافة تعفيه من الاحتكاك وتُبقيه في حيّزه المريح والمألوف (comfort zone)، مُشكّلةً ذرائعه التي تجنّبه المواجهة. إلاّ أنّ هؤلاء الحمائيّين مثيرون للشفقة إذ يستخدمون خِدعاً للهرب من تحدّيات الحياة، لكنّها مع تكرارها تخسر فعاليّتها، لتؤثّر سلباً في صحّتهم النفسيّة وفي نوعيّة حياتهم.
ويلجأ كثيرون من المنكرين إلى مبالغة تعويضيّة (overcompensation)، كالتقليل من أهميّة الآخرين وتصغيرهم واستصغارهم، أو التباهي بإنجازات حقّقوها هم في الماضي، مع تجنّبهم التعرّض لأوضاع قد تكشفهم كأشخاص زائفين، وهنا تنشأ عقدة التفوّق بمعناها المَرَضيّ.
وجادل أدلر بأنّ ثمّة هدفاً واحداً في الحياة يمكّننا من تذليل تصوّرنا عن أنفسنا كضعفاء ودونيّين، هو التعاون مع آخرين لتوكيد أهداف مشتركة، أو ما سمّاه «الحسّ الجمعيّ» (gemeinschaftsgefuhl) وصفاً للرغبة بحياة جماعيّة وللطاقة التي تُبذل للغرض هذا. فغالباً ما لا يكون مصدر ألمنا تحدّيات الحياة، بل الحلول التي نعتمدها في مواجهة التحدّيات تلك، إذ نحن محكومون بتجاربنا أقلّ ممّا بالمعنى الذي نعطيه لها.
وهذا التعويل على الرابط الاجتماعيّ مدّه أدلر إلى عالم الأطفال الذين عمل معهم فرديّاً وفي العيادات الطبيّة. فالصغار يرون إلى أنفسهم كضعفاء وتابعين قياساً بالكبار، وهم يدركون أنّ حياتهم رهن عثورهم على موقع آمن ومَحميّ في العائلة. وإنّما إبّان الطفولة، يخلق الطفل لنفسه «هدف حياةٍ» تبعاً لفهمه كيف يحسّن موقعه في العائلة. وما هدف سلوكنا كأطفال، وكراشدين بالتالي، بما في ذلك «نمط الحياة» المعتَمَد، سوى تقريبنا من ذاك الهدف الذي اخترناه في الطفولة. وهكذا فالتحدّي الأساسيّ المطروح على تربية الأطفال هو بالضبط تشجيعهم على «الحسّ الجمعيّ» بوصفه الطريقة الوحيدة التي بها يستطيعون تجاوز إحساسهم بدونيّتهم، وهذا إنّما يرقى إلى مُحرّك أساسيّ للبشر على مدى حياتهم.
أفكار كهذه كانت أكثر من كافية لدفع أدلر إلى الانشقاق عن فرويد ولاشتغاله على تأسيس ما بات يُعرف بـ»علم النفس الفرديّ» - عِلمه.