إلى محمود درويش في حضرة الغياب

إلى محمود درويش.. في حضرة الغياب

إلى محمود درويش.. في حضرة الغياب

 عمان اليوم -

إلى محمود درويش في حضرة الغياب

بقلم ـ طلال سليمان

أيها الصديق، قاهر النسيان، المشع أملا في أفق الغياب،

استذكر، اليوم، كلمات وداعك الناضحة بالوجع: «اعرف انني لن أعود، ولا يحزنني الغياب. ولكن حطام احلامي ينتشر على طريقي فيوجعني ان أمشي عليه رحلتي الأخيرة، ومعي فلسطين...».

لقد اخترت موعد مغادرتك، فارتحت... أما نحن، الذين ننتظر، فنخجل من كوننا نعيش الهزيمة ألف مرة، في اليوم، من دون ان نستطيع لها مقاومة!

لم نعد نعرف أنفسنا، يا محمود، أضعنا الهوية عندما اضعنا القضية فضاعت الأمة مزقا مزقا. التهمت الطائفية الدين، والتهم الطغيان الشعب، والتهمت الهزيمة بالتحالف مع الدكتاتورية إرادة الأمة فصارت إسرائيل صديقا في بعض عواصمنا وحليفا في عواصم أخرى، وغاب المقاومون إلا قليلا، في لبنان..

أيها الذي لا يطويه الموت ويقيم في الوجدان شاهدا علينا، يحاسبنا فيجلدنا جميعا ليس عن تقصيرنا، فهذا خارج الحساب، بل عن خيانتنا التي هدرت نضال الأمة على امتداد أجيال، فضيعت ما كان قد تحقق على طريق التحرر والتحرير..

لقد قتلنا الحاضر بالماضي، يا محمود، وقتلنا المستقبل بالحاضر، فإذا نحن بلا هوية جامعة، وقتلنا القضية التي كانت مقدسة بالصراع بها وعليها من أجل السلطة في عواصم العز، فإذا نحن لا أحد..

كانت أهداف النضال تبدأ بفلسطين فتعبر العواصم، تخلع أنظمة العجز والهزيمة... فإذا نحن الآن نكاد نكون بلا دول: مصر مرتهنة برغيفها، وسوريا غارقة في دمها مدمرة عواصم التاريخ، والعراق يأخذه الفساد ببغداده وموصله وبصراه، إلى كانتونات طائفية مزروعة بالفتنة والجوع، والمملكة المذهبة تتصدى لبناء مستقبلنا بأمسها الغارق في العتمة، واليمن السعيد تمزقه غارات الطيران الشقيق الذي لم نعرف بوجوده الا عبر حطام صنعاء وتعز وحوض ومأرب وعدن التي لم تكن جنة في أي يوم.

محمود درويش: أيها الغائب المزروع في الوجدان لا يغادره فيعذبنا حتى الوجع، اعرف انك لم تنسَ يوما ذلك الفتى الأسمر في «مكتب الكفاح المسلح» على الحدود اللبنانية ـ السورية، الذي استقبلك وأخذ منك بطاقتك فتأملها مليا قبل ان يلتفت إليك فينبر بلهجة تنضح غضباً: محمود درويش.. الشاعر؟!

فلما اجبت مغتبطاً: نعم!. بادرك على الفور: أنت خائن!

ومن قلب شعورك بالإحباط قلت له: أنا؟. الله يسامحك.

حاولت ان اتدخل فقمعني بحدة، وعاد يخاطبك، فقال: الله لا يسامحك.. نحن نموت من اجل ان نفوت إلى فلسطين، وأنت تغادرها لتعيش خارجها.. كيف يمكن ان تسمي هذه الفعلة الا باسمها الصريح؟!

رأيت فيك، عندها، محمود درويش الآخر، الذي يسكنه الشعور بالذنب... وطلبت إليه ان يسمعك فقد يجد لك العذر.. وبعد تردد خرج من وراء حاجزه الخشبي فجاء يشاركنا الجلوس على «البنك» وهو يقول ساخراً: تفضل! ماذا يمكنك ان تقول؟ بماذا يمكن ان تبرر فعلتك؟!

واندفعت، يا محمود، تروي له بصوت راجف «اعترافك».. قلت:

ـ كانت حياتي في الداخل قد غدت بلا معنى. فكل يوم عليّ ان أمر على شرطة الاحتلال، وبين الحين والآخر قد يسجنونني يوما او ثلاثة أيام أو اسبوعاً... صار ذلك «روتينا»، لا تستطيع ان تسميها مقاومة، حتى لو كانت رفضا للاحتلال.. واحسست انني انضب لم اعد املك ما أقوله.. وكدت اختنق، وتهاوى ادعائي انني بذلك انما اقاوم الاحتلال. وهكذا خرجت بأمل ان استمد من المحيط العربي ما يجدد فيّ الأمل.. ان ارفع راية قضيتي المقدسة، ان اخدم فلسطين الأمة بسلاحي الوحيد الذي املك: شعري..

ولقد استمع إليك ذاك المقاتل بصبر.. فلما انتهيت قال لك بنبرة يختلط فيها الغضب بشيء من خيبة الامل: لقد خرجت الآن من أرضنا المقدسة التي نقاتل ونستشهد من أجل العودة إليها. هذا قرارك، ولكنني لن اغفر لك.. هيا اكمل طريقك، مع السلامة!

المحزن، يا محمود، ان هذا المقاتل ربما كان بين الذين عادوا إلى «الداخل»، بموجب اتفاق أوسلو.. وربما كان الآن شرطياً للسلطة!

والمحزن أكثر اننا نسمع شعرك وكأنه البديل من فلسطين وليس الدليل إليها.. هي التي ضاعت في غياهب التيه العربي الذي ذهب بـ «دول الطوق»، بل لعله ذهب بالدول العربية جميعا، التي تقتتل في ما بينها وتقتل رعاياها مع «القضية» وعلى حسابها..

لا وقت للشعر الآن.. الوقت للقتل: قتل الاخوة، قتل الأوطان، قتل الدين، قتل الهوية، قتل الأمل، بل قتل الأحلام.

هنيئا لك انك غادرت... وعلينا ان نخترع الأمل، كما قال صديقنا سعدالله ونوس وسلام عليكما حيث انتما، بعيداً عن واقعنا الذي صار مسلسلاً من الكوابيس الذاهبة بهويتنا والاسماء الحسنى جميعاً.

omantoday

GMT 05:19 2016 الأحد ,04 كانون الأول / ديسمبر

ترامب والمجتمع المدني العربي

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

إلى محمود درويش في حضرة الغياب إلى محمود درويش في حضرة الغياب



إطلالات أروى جودة في 2024 بتصاميم معاصرة وراقية

القاهرة - عمان اليوم

GMT 13:56 2024 الثلاثاء ,17 كانون الأول / ديسمبر

نصائح سهلة للتخلص من الدهون خلال فصل الشتاء

GMT 20:41 2020 السبت ,05 كانون الأول / ديسمبر

يوم مميز للنقاشات والاتصالات والأعمال

GMT 17:31 2020 الجمعة ,28 شباط / فبراير

يولد بعض الجدل مع أحد الزملاء أو أحد المقربين

GMT 14:50 2019 الثلاثاء ,02 إبريل / نيسان

حافظ على رباطة جأشك حتى لو تعرضت للاستفزاز

GMT 06:18 2019 الإثنين ,01 تموز / يوليو

تنتظرك أحدث سعيدة خلال هذا الشهر

GMT 22:59 2019 الأحد ,15 أيلول / سبتمبر

اهتمامات الصحف الليبية الأحد

GMT 12:27 2019 الخميس ,05 أيلول / سبتمبر

السعودية تستضيف نزال الملاكمة الأهم هذا العام
 
syria-24

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

omantoday Omantoday Omantoday Omantoday
omantoday omantoday omantoday
omantoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
oman, Arab, Arab