أميركا أيضاً تتراشق بشهدائها

أميركا أيضاً تتراشق بشهدائها

أميركا أيضاً تتراشق بشهدائها

 عمان اليوم -

أميركا أيضاً تتراشق بشهدائها

بقلم : نديم قطيش

تندرج العاصفة السياسية حول زيارة دونالد ترمب لمقبرة أرلينغتون الوطنية في سياق النكايات السياسية الفظة في موسم انتخابي رئاسي. ثار الديمقراطيون، ومعهم منصات إعلامية ليبرالية، على التقاط ترمب صوراً مع أنصاره مبتسماً ورافعاً إبهامه عند قبور الجنود الذين سقطوا خلال الانسحاب الأميركي من أفغانستان، وافتعلوا نقاشاً ساخناً وحاداً حول الوطنية، والاحترام، وموقع الرموز القومية في الحياة السياسية الأميركية.

لا شك في أن مقبرة أرلينغتون تحتل موقعاً مهيباً في سردية الهوية الوطنية الأميركية، وتعامل كرمزٍ شبه مقدس يراد وضعه فوق السياسة وانقساماتها. بيد أن ذلك يشكل قفزاً بهلوانياً فوق حقيقة أن أصول المقبرة مرتبطة ارتباطًا وثيقاً بالتاريخ السياسي للولايات المتحدة، وحربها الأهلية والمصالحات التي تلتها. ليس أدل على ذلك من أن المقبرة شُيدت خلال الحرب الأهلية على أرض مصادرة من الجنرال الكونفدرالي روبرت إدوارد لي، لدفن وتكريم الجنود والضباط الذين قاتلوا من أجل الاتحاد الفيدرالي الأميركي ضد المتمردين الجنوبيين، ما يعني أن إنشاءها كان بحد ذاته «مانيفستو» سياسياً من الطراز الأول.

وما لبثت المقبرة أن ارتدت معاني أكثر شمولية لتصبح رمزاً أكبر للتضحيات التي قدمها الجنود الأميركيون في مختلف الحروب، بالتوازي مع تطور الهوية الوطنية الأميركية وقيمها. فاستقبلت المقبرة جنوداً من أصول أفريقية ونساء قضوا خلال الخدمة العسكرية بعد أن استبعدت هذه الفئات وغيرها في حقب أبكر.

والحال، تعد الانتقادات الموجهة لترمب والضجة المفتعلة حول زيارته، باباً من أبواب الغضب الانتقائي الذي يستغله السياسيون بكثير من الكيدية والنفاق، وجزءاً من حملات الاغتيال المعنوي المتبادلة. فعلى سبيل المثال ثار الجمهوريون عام 2010 على الرئيس الأسبق باراك أوباما عندما تغيّب عن إحياء «عيد الشهداء» في مقبرة أرلينغتون، على جري العادات السياسية في واشنطن، مشككين بصلابة التزامه الوطني وضعف احترامه للقوات المسلحة.

ومن زاوية أخرى، قد تكون بعض المبالغات التي دارت حول سلوك ترمب، خلال زيارته إلى أرلينغتون، تهدف إلى طمس النقاش الحقيقي حول قرارات وسياسات إدارة بايدن التي أدت إلى سقوط هؤلاء الجنود في المقام الأول، خلال الانسحاب الأميركي الفوضوي من أفغانستان. أراد ترمب للزيارة أن تكون بمثابة تذكير بفشل إدارة بايدن وتوريط الجيش في عمليات قتالية كان يمكن تفاديها، ما دفع خصومه لتشتيت الانتباه عن ذلك عبر اللعب على قيم الاحترام والوطنية والسرديات الشعبوية.

بوسع ترمب أن يدعي أن أسمى أشكال الاحترام للجنود الذين سقطوا هو رفع الصوت بوضوح بشأن الأسباب التي أدت إلى فقدانهم حياتهم، بدل التلهي «بالاستقامة الجوفاء»، والتركيز على سلوك ترمب أياً تكن قلة لياقته واستحقاقه للنقد. فلا يجوز، بحجة الوحدة الوطنية وصون القيم الجماعية في حضرة تضحيات الشهداء، أن يصار إلى تدبيج نسخ مشوهة ومبتورة للتاريخ، لا سيما عندما يتصل الأمر بصواب أو خطأ قرارات الحرب والسلم.

لكن من شنوا الحملة ضد ترمب يدركون بلا شك الموقع الحساس الذي تحتله الرموز القومية عامة، لا سيما المقابر الوطنية، في السرديات السياسية وفي نفوس الجماهير.

ففي عام 1985، واجه الرئيس الأميركي الراحل رونالد ريغان انتقادات شديدة بعد زيارته لمقبرة بيتبورغ في ألمانيا الغربية آنذاك، حيث دفن عدد من الجنود الألمان الذين قاتلوا في الحرب العالمية الثانية، وبينهم جنود قوات «فافن إس إس» النازية. كان هذا الحدث جزءاً من محاولة ريغان لتقوية العلاقات الأميركية - الألمانية، لكن نقاده رأوا فيه إهانة لذكرى الجنود الأميركيين الذين قاتلوا في الحرب، في حين أن أصواتاً يهودية عدّته تقليلاً من احترام ضحايا الهولوكوست. ليس من باب المبالغة القول إن الشهداء يحكمون من قبورهم ديناميات الشأن العام في كل المجتمعات تقريباً، لا سيما حين تتحول ذكراهم إلى مصنع للمخيال الوطني والسياسي ومسرح للعبة الهوية وتعزيز الشرعيات السياسية أو نقضها.

والحال، لئن كانت مقبرة أرلينغتون، كغيرها من المقابر الوطنية، أكثر من مجرد موقع للدفن والتكريم، فإن استغلالها لأغراض سياسية ليس جديداً ولا يقتصر على طرف واحد. وإذ لا تخفى الصلة بين زيارة ترمب وبقية استعراضاته الوطنية، وبين أهدافه السياسية وخطابه الشعبوي، فإن المبالغات التي ميزت ردود الفعل عليها سيّست هي الأخرى قضية احترام الجنود الشهداء، وأمعنت في استغلالها لتحقيق مكاسب سياسية. يوضح هذا الجدل كيف أن أكثر الجوانب قداسةً في الحياة العامة تكون دوماً عرضة للتسييس في أوقات الانقسامات العميقة، كما هي الحال في أميركا اليوم. تنتصب سياسات الحداد والذاكرة، بهذا المعنى، طقساً سياسياً معقداً تشكل المجتمعات عبره الذاكرة الجماعية والهوية الوطنية والسرديات القومية، من خلال قرارات انتقائية تتعلق بمن يُذكر وكيف يُكرم، في حين يلعب السياق الزمني لعمليات التذكر دوره في التعبير عن هياكل سلطة وعلاقات القوة في لحظة وطنية ما.

omantoday

GMT 14:29 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

الثكنة الأخيرة

GMT 14:28 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

سوريا... هذه الحقائق

GMT 14:27 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

في أنّنا بحاجة إلى أساطير مؤسِّسة جديدة لبلدان المشرق

GMT 14:26 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

مخبول ألمانيا وتحذيرات السعودية

GMT 14:25 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

التاريخ والفكر: سوريا بين تزويرين

GMT 14:24 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

إنجاز سوريا... بين الضروري والكافي

GMT 14:22 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

ليبيا: لعبة تدوير الأوهام

GMT 14:21 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

عالية ممدوح

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

أميركا أيضاً تتراشق بشهدائها أميركا أيضاً تتراشق بشهدائها



إطلالات أروى جودة في 2024 بتصاميم معاصرة وراقية

القاهرة - عمان اليوم

GMT 13:56 2024 الثلاثاء ,17 كانون الأول / ديسمبر

نصائح سهلة للتخلص من الدهون خلال فصل الشتاء

GMT 20:41 2020 السبت ,05 كانون الأول / ديسمبر

يوم مميز للنقاشات والاتصالات والأعمال

GMT 17:31 2020 الجمعة ,28 شباط / فبراير

يولد بعض الجدل مع أحد الزملاء أو أحد المقربين

GMT 14:50 2019 الثلاثاء ,02 إبريل / نيسان

حافظ على رباطة جأشك حتى لو تعرضت للاستفزاز

GMT 06:18 2019 الإثنين ,01 تموز / يوليو

تنتظرك أحدث سعيدة خلال هذا الشهر

GMT 22:59 2019 الأحد ,15 أيلول / سبتمبر

اهتمامات الصحف الليبية الأحد

GMT 12:27 2019 الخميس ,05 أيلول / سبتمبر

السعودية تستضيف نزال الملاكمة الأهم هذا العام

GMT 16:04 2019 الخميس ,01 آب / أغسطس

تمتع بالهدوء وقوة التحمل لتخطي المصاعب
 
syria-24

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

omantoday Omantoday Omantoday Omantoday
omantoday omantoday omantoday
omantoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
oman, Arab, Arab