خنادق الآيديولوجيا وأقفاصها

خنادق الآيديولوجيا وأقفاصها

خنادق الآيديولوجيا وأقفاصها

 عمان اليوم -

خنادق الآيديولوجيا وأقفاصها

بقلم : عبد الرحمن شلقم

كُتب الكثير عن خبايا النفس البشرية. علم النفس حاز مساحة واسعة في الدراسات الإنسانية في القرنين الأخيرين. الحروب التي قامت بين البشر عبر العصور، اختلفت دوافعها. الاستيلاء على الثروات، والهيمنة على مقدرات الآخرين، أو فرض معتقد فكري أو ديني. قبل قيام الدولة الوطنية، لم تكن هناك حدود للكيانات القومية المستقلة، ولم يكن هناك ما يُعرف اليوم بسيادة الدولة. الجيوش النظامية للدول ولدت في زمن آخر.

الإمبراطورية الرومانية التي هيمنت على أراض واسعة في أوروبا والبحر الأبيض المتوسط، كانت دولة لا دين لها ولا آيديولوجيا.

الإمبراطور الروماني الأول قسطنطين، وسَّع سيطرته على أراض وأمم أخرى، بعدما حقق انتصارات على الفرنكس والألمان والقوط الغربيين. ضمت إمبراطوريته الرومانية، عدداً كبيراً من معتنقي اليهودية، وقلة من المسيحيين. أدرك لأسباب سياسية، ضرورة فتل حبل عقيدي، يجمع الشعوب المختلفة الخاضعة لحكمه. أصدر مرسوماً في القرن الرابع الميلادي، يقضي أن تكون الديانة المسيحية، العقيدة الدينية الرسمية للإمبراطورية. كان ذلك مرسوماً آيديولوجياً، أكثر مما هو دينياً. أمر ببناء الكنائس الضخمة، في مختلف أنحاء البلاد وأغدق الأموال الطائلة على رجال الدين. مؤرخون كتبوا أن الإمبراطور قسطنطين مات وثنياً ولم يكن مسيحياً.

الآيديولوجيا خندق يُلقى فيه عقل الإنسان، ويوقن أنه في دنيا تحتضن الحقيقة المطلقة، وكل ما هو خارجها أوهام وأكاذيب. لكل آيديولوجيا حفرها الخاصة، تختلف عن غيرها، وكثيراً ما تكون لها مشتركات عامة مع أخرى. المفكرون والزعماء، هم حفَّارو ذلك الجحر المستطيل، الذي يتمدد فيه المريدون الذين، سُملت عيونهم بمخاريق الكلام، وثُقبت رؤوسهم لتُضخ فيها رغوة التهويل مما هو قادم، وإطلاق عواصف الأمل الملون، والتبشير بنصر مؤزر، يصنع دنيا جديدة يسود فيها المتمددون في خندق الحلم العاطر. الشيوعية والنازية والفاشية، مثلث الحلم الملون بطيف من الوعد والوعيد. الآيديولوجيا لا تنبت حشائشها في تربة زمن واحد، لكنها تتخلق من تراكم أفكار عابرة للمكان والأحداث. الثورة الصناعية التي شهدتها أوروبا الغربية، في القرن الثامن عشر، نقلت المجتمعات من المرحلة البرجوازية، إلى مرحلة الرأسمالية. دخلت أوروبا عصراً جديداً، عصر من يملك ومن يعمل. الفكر الإنساني يتحرك في مسارات الحياة المتطورة. صراع الطبقات الاجتماعية، القائم على قواعد الاقتصاد، نظَّر له الفلاسفة، وكتبوا وقالوا وحرضوا، وصارت للأفكار مصانعها وقوتها المحركة للمجتمعات. المفكر كارل ماركس، أشعل فتيلاً فكرياً قبس منه الطامحون للسلطة، وصنعوا منه جمراً رشوا فوقه بخوراً، ليكون شهيقاً للذين يعانون من ثقل أيامهم. الماركسية اللينينية كانت آيديولوجيا القرن العشرين، التي تجسدت في سلطة، حكمت أكبر دولة مساحة في العالم، صارت الآيديولوجيا قوة فاعلة جديدة، في زمن جديد له محركات اقتصادية وسياسية غير مسبوقة. بعد الحرب العالمية الأولى، كان العالم على موعد مع الحركة الفاشية في إيطاليا، والنازية في ألمانيا.

قال الأولون: البطن صباغ دباغ. من الرحم الآيديولوجي الروسي العنيف ذاته، وُلدت اثنتان لهما قسمات لا تشبه الأم، إلا في العنف الذي حملهما إلى سدة السلطة. في روسيا الشيوعية، قام الزعيم القائد جوزيف ستالين بقتل الملايين، بينهم من كانوا رفاقاً له في الفكر والحزب، ومن ضباط الجيش، وسجن الملايين في سيبيريا.

بينيتو موسوليني، زحف على روما ومعه آلاف من المؤمنين بفكره الفاشي، الذي يصف الأنظمة الديمقراطية في فرنسا وبريطانيا، بالأنظمة الغبية التافهة، ووعد الإيطاليين باستعادة عظمة روما، وشن حرباً على إثيوبيا، وقتل الليبيين. في ألمانيا التي عاشت تحت ركام الهزيمة في الحرب العالمية الأولى، وعانت مرارة الجوع والبطالة، قفز شاويش نمساوي الى السلطة بمظلة العرق الآري، وصبَّ في كتابه (كفاحي)، آيديولوجيته النازية التي تقول بتفوق العرق الآري على جميع الأعراق. الزعيم الفرد، هو العمود الرافع لبرج العظمة. انتهى الزعيمان موسوليني وهتلر، أولهما مقتولاً معلقاً من قدميه، والثاني مهزوماً منتحراً في خندق فكره الشاذ، وكانت مهمته في الحرب العالمية الأولى نقل الرسائل بين خنادق القوات الألمانية.

الصين البلد الذي سيطر فيه الحزب الشيوعي، بقيادة زعيمه ماو تسي تونغ على السلطة، بعد انتصاره على غريمه في الحرب الأهلية، شان كيان شيك. شهد آيديولوجيا لها أجنحة تطير في سماوات الأوهام. صنع الزعيم ماوتسي تونغ، قفصاً آيديولوجياً ضيقاً، مساحته أمتار محدودة، وضع فيه الفيل الصيني الضخم. يمطر الكائن السجين، بزخات من الأفكار الثقافية والاقتصادية والاجتماعية العجيبة، وليس للفيل إلا أن يغمض عينيه، وأن يحرك خرطومه الضامر ببطء. جاء الزعيم الشيوعي دنغ هسياو بنغ، وخلع رداءه الماوي، وكسر قفص الآيديولوجيا. تحرر الفيل مندفعاً يفكر ويصنع ويزرع، حتى صار العالم كله مساحة له. رُدمت الخنادق، وتكسرت الأقفاص.

 

omantoday

GMT 14:29 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

الثكنة الأخيرة

GMT 14:28 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

سوريا... هذه الحقائق

GMT 14:27 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

في أنّنا بحاجة إلى أساطير مؤسِّسة جديدة لبلدان المشرق

GMT 14:26 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

مخبول ألمانيا وتحذيرات السعودية

GMT 14:25 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

التاريخ والفكر: سوريا بين تزويرين

GMT 14:24 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

إنجاز سوريا... بين الضروري والكافي

GMT 14:22 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

ليبيا: لعبة تدوير الأوهام

GMT 14:21 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

عالية ممدوح

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

خنادق الآيديولوجيا وأقفاصها خنادق الآيديولوجيا وأقفاصها



إطلالات أروى جودة في 2024 بتصاميم معاصرة وراقية

القاهرة - عمان اليوم

GMT 13:56 2024 الثلاثاء ,17 كانون الأول / ديسمبر

نصائح سهلة للتخلص من الدهون خلال فصل الشتاء

GMT 16:04 2019 الخميس ,01 آب / أغسطس

تمتع بالهدوء وقوة التحمل لتخطي المصاعب

GMT 09:41 2019 الخميس ,01 آب / أغسطس

تعيش أجواء مهمة وسعيدة في حياتك المهنية

GMT 22:59 2019 الأحد ,15 أيلول / سبتمبر

اهتمامات الصحف الليبية الأحد

GMT 21:26 2020 الثلاثاء ,30 حزيران / يونيو

كن قوي العزيمة ولا تضعف أمام المغريات

GMT 12:27 2019 الخميس ,05 أيلول / سبتمبر

السعودية تستضيف نزال الملاكمة الأهم هذا العام

GMT 19:24 2021 الإثنين ,01 شباط / فبراير

التفرد والعناد يؤديان حتماً إلى عواقب وخيمة
 
syria-24

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

omantoday Omantoday Omantoday Omantoday
omantoday omantoday omantoday
omantoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
oman, Arab, Arab