الأصوات الصفراء

الأصوات الصفراء

الأصوات الصفراء

 عمان اليوم -

الأصوات الصفراء

بقلم : عبد الرحمن شلقم

الصحف الصفراء، وصف أطلق على الصحف التي تنشر الفضائح، والمعلومات المثيرة، وخاصة في بريطانيا والولايات المتحدة. يقبل القراء على هذه الصحف، هروباً من المماحكات السياسية، والمختنقات الاقتصادية. في منطقتنا العربية، ساد مصطلح الكتب الصفراء. تلك الكتب التي طبعت على نوع من الورق القديم ذي اللون الأصفر. بين صفحات هذه الكتب الصفراء معلومات وأفكار حرقتها شمس السنين الغابرة، لكنها بقيت تقاوم في رفوف المكتبات، وفي الرؤوس التي لا تعلق على جدرانها، عداد الأيام والشهور والسنوات. بعد اختراع الراديو والتلفزيون، ومن بعدها وسائل التواصل الاجتماعي بالصوت والصورة والكتابة، امتلأت هذه الوسائل بجحافل القافزين عليها، من كل مرتفع ومنخفض، ومتسع وضيق. صارت الأصوات التي تصرخ وتلعلع، ذات ألوان فاقعة، وكأن الصوت في حد ذاته هو الفكرة. زحام لا ينقطع على شاشات التلفزيون، وعلى شبكات التواصل الاجتماعي. عن الفقيه لا تسل، ولا عن المحللين لكل شيء، وكأن كل ما على الأرض، يعيش الطلاق الثالث، ولا مناص من محلل له. تحولت الشاشات إلى أسواق مفتوحة، يُعرض فيها ما ابتلعه الدهر وغادر بطنه. لا اشتباك مع ما تدفعه العقول العالمة في كل بقاع الأرض، وما حققته الدول الحديثة من تقدم، بسط الرفاهية والاستقرار والسلام الاجتماعي والحكومات المسؤولة. في عالم نعيشه اليوم، صار العلم هبة العقول المبدعة لكل الإنسانية. الكتاب متوفر في كل مكان، وبطباعة تغري بالقراءة. الإضاءة التي أهدتها الكهرباء للعيون، اختزلت الوقت، ومكنت الكبار والصغار من الدراسة والبحث والكتابة. في الزمن الأصفر الغابر، كان الورق أصفر والضوء باهتاً. قبل اختراع المصباح الكهربائي، كان المؤلفون في كل فروع المعارف، يقرأون وهم ينحنون حول نار على أعواد حطب، ودخانها يغزو عيونهم التي تعاني من الرمد وغيره. ما كان يتعلمه مجتهد متميز في القرون الغابرة، في سنوات طويلة، يصل إليه المجتهدون والباحثون اليوم، في شهور قليلة، بفضل ما وفرته التقنية. الأصوات الصفراء التي تعلو في وسائل الاتصال الجماهيري الحديثة، لا تغادر أزمنتها الصفراء الراحلة، وتتسابق في محافل الصخب، لتنشر كراهية الحياة، وتقديس النكد والكراهية، والتعبئة الحادة للعنف والتطرف. الأصوات الصفراء صارت اليوم سهاماً تخترق المجتمعات المتخلفة، التي هي في أشد الحاجة إلى تعبئتها للنهوض بقوة العلم والتفكير والبحث، لتأهيل إنسان جديد لعصر جديد.

شهدت منطقتنا منذ سبعة عقود، أحداثاً كبيرة هزَّت كيانها، وأدخلتها في متاهات تتسع، ويزداد العنف والارتباك والانكسار، ويتسع التخلف والعنف، ولا تتوقف سيول الدم. لم تجرِ دراسات موضوعية علمية لتحليل محركات ما تعانيه المنطقة. في إسرائيل بعد كل حرب، أو مواجهة عسكرية مع دولة أو تنظيم مسلح عربي، يصار إلى تشكيل لجنة تحقيق، تضم سياسيين وعسكريين وقانونيين، لتقييم ما حدث واكتشاف الخلل، ووضع رؤية منهجية للتعامل مع ما يمكن أن يحدث في المستقبل، واعتبار تفاصيل كل ما حدث معطى لا يمكن تجاهله، أو السكوت عن تفاصيل ما كان فيه. في ذات الوقت، ترتفع الأصوات الصفراء العالية عندنا، تتنابز حول معركة جرت منذ مئات السنين بين أطراف عربية وإسلامية. في الدول التي يقودها العقل، لا تتوقف الدراسات والنقاش، حول ما يشهده العالم من تغيرات مناخية خطيرة تهدد الحياة، تصدح الأصوات الصفراء بمنطقتنا ليلاً ونهاراً، عن المسح على الخف والأذن، وعن مغادرة المرأة لبيتها دون محرم أو إذن الزوج، وعن الحجاب... إلخ. الدين قوة للعلم والإبداع والتقدم والتسامح والسلام الاجتماعي، وتحقيق فرحة الحياة.

في الدول المتقدمة، تمتلئ المكتبات بأحدث ما تضيفه العقول من علم وبحوث وإبداع تضيف لقوة الفكر، وتضيء الطريق للجيل الجديد. في منطقتنا تزدحم المكتبات العامة والخاصة، بمجلدات الفقه والتاريخ الأصفر، التي تكدس تراث الحروب والصراع والخلاف.

مناهج التعليم جامدة لا تتحرك، مع زمن تزداد سرعته كل يوم، ويعاد تأهيل المعلم، وفقاً للدراسات المتجددة والمستمرة في التربية وعلم النفس. القيمة المضافة معطى اقتصادي فاعل، يشخص الهوية الاقتصادية للدول، وفقاً لثرواتها الطبيعية وقدراتها البشرية، وتبنى عليه مرتكزات التعليم في مختلف المراحل. الأصوات الصفراء، تغيب العقل، وينفخ لونها فقاعات التجهيل، وتجر النشء إلى متاهات أزمنة بادت وماتت.

كتابان أتمني أن يُقررا في مراحل التعليم المختلفة في منطقتنا. وهما: كتاب الدكتور طه حسين، «مستقبل الثقافة في مصر»، وكتاب خير الدين التونسي، «أقوم المسالك في معرفة أحوال الممالك». لماذا؟ كتابان فيهما رؤية عميقة لعصر قوته العقل، يعرف خريطة مكونات النهوض والتقدم، بعيداً عن زخرفة الماضي المدفون في غيهب الفناء. أولى الخطوات نحو النصر في كل المعارك، تبدأ بالمنازلة مع الأصوات الصفراء، التي تنقل تاريخ معارك جرت قبل ألف سنة عبرت، كما ينقل مذيع على الهواء، مجريات مباراة بين فريقين في مسابقات كأس العالم.

 

omantoday

GMT 14:29 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

الثكنة الأخيرة

GMT 14:28 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

سوريا... هذه الحقائق

GMT 14:27 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

في أنّنا بحاجة إلى أساطير مؤسِّسة جديدة لبلدان المشرق

GMT 14:26 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

مخبول ألمانيا وتحذيرات السعودية

GMT 14:25 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

التاريخ والفكر: سوريا بين تزويرين

GMT 14:24 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

إنجاز سوريا... بين الضروري والكافي

GMT 14:22 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

ليبيا: لعبة تدوير الأوهام

GMT 14:21 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

عالية ممدوح

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

الأصوات الصفراء الأصوات الصفراء



إطلالات أروى جودة في 2024 بتصاميم معاصرة وراقية

القاهرة - عمان اليوم

GMT 13:56 2024 الثلاثاء ,17 كانون الأول / ديسمبر

نصائح سهلة للتخلص من الدهون خلال فصل الشتاء

GMT 20:41 2020 السبت ,05 كانون الأول / ديسمبر

يوم مميز للنقاشات والاتصالات والأعمال

GMT 17:31 2020 الجمعة ,28 شباط / فبراير

يولد بعض الجدل مع أحد الزملاء أو أحد المقربين

GMT 14:50 2019 الثلاثاء ,02 إبريل / نيسان

حافظ على رباطة جأشك حتى لو تعرضت للاستفزاز

GMT 06:18 2019 الإثنين ,01 تموز / يوليو

تنتظرك أحدث سعيدة خلال هذا الشهر

GMT 22:59 2019 الأحد ,15 أيلول / سبتمبر

اهتمامات الصحف الليبية الأحد

GMT 12:27 2019 الخميس ,05 أيلول / سبتمبر

السعودية تستضيف نزال الملاكمة الأهم هذا العام

GMT 16:04 2019 الخميس ,01 آب / أغسطس

تمتع بالهدوء وقوة التحمل لتخطي المصاعب
 
syria-24

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

omantoday Omantoday Omantoday Omantoday
omantoday omantoday omantoday
omantoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
oman, Arab, Arab