التراجع الذي يضرب مصر

التراجع الذي يضرب مصر

التراجع الذي يضرب مصر

 عمان اليوم -

التراجع الذي يضرب مصر

حازم صاغيّة

إذاً، الإيدز يُعالَج بالكفتة. الذين سخروا بحقّ من العبارات الخرقاء للرئيس الإخوانيّ السابق محمّد مرسي، وفي عدادها don’t mix الشهيرة، لا بدّ أنّهم استلقوا على ظهورهم ضحكاً وهم يتابعون الاختراع الطبّيّ الأخير الصادر عن المؤسّسة العسكريّة. الاختراع هذا يكاد يرقى إلى معيار لحبّ مصر، ومن لا يؤمن به باتت وطنيّته معرّضة للطعن. ولأنّه هكذا، رأى البعض ضرورة إبقاء تفاصيله سرّيّة كي لا يتسرّب إلى أمم أخرى. وكان مثقّف سوريّ راحل اهتمّ بمصر، هو ياسين الحافظ، قد عدّ المؤسّسة العسكريّة، على رغم هزيمتها المدوّية في 1967، أكثر بنى المجتمع المصريّ حداثة وتقدّماً. وهو حين قارنها بالبنية الثقافيّة والمثقّفين انحاز إليها من دون تردّد. ما الذي يمكن قوله الآن؟ باسم يوسف يكتب اليوم مثلاً عن «قلّة القيمة التي جعلت شعب أمّ الدنيا لا يختلف عن سكّان الكهوف الذين يؤمنون بالخرافات، وفي أيّ لحظة يمكن اللعب على مشاعرهم الدينيّة والوطنيّة ليحملوا المشاعل لحرق العلماء على أنّهم سحرة أو كفرة أو خونة». والحال أنّنا شهدنا في العقود الأخيرة تواصلاً في الانهيار ربّما كان أبرز أسبابه أنّ الشعب لا يصنع تاريخه بيديه. ووسط هذا العتم المديد اتّسعت الهوّة بين الأوهام النرجسيّة عن الذات وبين الواقع الفعليّ. فتراجع مصر موقعاً واقتصاداً ودوراً واكبه تصاعد غير عاديّ في غزل المصريّين بمصر الضاربة في «سبعة آلاف سنة من التاريخ». فحين كانت تلك الهوّة تتبدّى فاقعة يصعب تمويهها والتحايل عليها، كان يُستنجَد بـ «المؤامرة» التي لا تكفّ عن الاشتغال. ومن بين عشرات الأمثلة المشابهة، ربّما كانت حادثة اللبان (العلكة)، مطالع التسعينات، أشدّها تعبيراً. ذاك أنّ الإسرائيليّين، بحسب تلك البلاهة، يرسلون إلى السوق المصريّة لباناً يُضعف الرجال جنسيّاً فيما يزيد تطلّب المرأة للجنس. وما يُستنتج طبعاً أنّ «الرجال اليهود» إنّما يراهنون على سدّ تلك الحاجة المتعاظمة التي لا تجد تلبيتها عند الرجال المصريّين. لقد نوقشت مؤامرة اللبان في مجلس الأمّة المصري. وحين قامت ثورة يناير، بدا مفهوماً أن تستمرّ تلك المنظومة «الفكريّة» إلى حينٍ بسبب المرحلة الانتقاليّة وما يلازمها حكماً من قلق واضطراب. لكنْ كان المؤمّل أن تبدأ سيطرة المصريّين تدريجاً على عالمهم، وأن تُقصّر تلك المسافة الفاصلة بين الكلام والقدرة، وبين الوهم والواقع. بيد أنّ الحديث عاد فجأة عن مؤامرة تحيكها المنظّمات غير الحكوميّة المموّلة غربيّاً، وظهرت أصوات تناشد عبد الناصر أن يعود من حيث هو ليخلّص البلد، كما رُسم الصحافيّ والعرّافة الثمانينيّ محمّد حسين هيكل نبيّاً لمستقبل مصر. وكانت الطامة الكبرى مع الانقلاب الذي بدا، بالكثير من إجراءاته، بمثابة اعتذار عن ثورة يناير، فيما تكشّفَ هزال الحساسيّة الديموقراطيّة عند «نُخب» مسمّاة ليبراليّة، ناهيك عن تلك اليساريّة والناصريّة غير المهمومة أصلاً بالبرهنة على ديموقراطيّتها. زادت في تسحير العالم ميولٌ جيمس بونديّة مؤكّدة في تلك الحرب على الإرهاب، وغموض ما يجري في سيناء، فضلاً عن سياسات كبرى لا يصحبها التعليل، كالانفتاح على روسيّا. وهذا كلّه يضيف إلى الاندهاش الكبير بالكون اندهاشاً أكبر. فمع المصير الذي آلت إليه الثورة، بلغ عدم السيطرة على الذات والعالم المحيط مداه الأقصى، أمّا التوقّع والتعقّل، في حدود القدرة العقلانيّة على الإحاطة، فانتكسا انتكاساً ذريعاً. ذاك أنّ ما بدأ ثورة شعبيّة انتهى نظاماً يجنح لأن يكون عسكريّاً، وما بدأ انفصالاً عن ماضٍ يرقى إلى 1952 انتهى تجديداً للارتباط بذاك الميراث. فإذا وُجد، فضلاً عن ذلك، طرف يريد أن يشغل المصريّين عن أمورهم الفعليّة كي يستكمل الانقضاض على السلطة، وهذا الطرف موجود، اكتملت العناصر المطلوبة، لا لإحراق القاهرة هذه المرّة كما حصل مطالع 1952، بل لإحراق العقل. حقّاً، هي «الواقعيّة السحريّة»، لا في أدب أميركا اللاتينيّة، بل في واقع مصر.

omantoday

GMT 14:29 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

الثكنة الأخيرة

GMT 14:28 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

سوريا... هذه الحقائق

GMT 14:27 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

في أنّنا بحاجة إلى أساطير مؤسِّسة جديدة لبلدان المشرق

GMT 14:26 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

مخبول ألمانيا وتحذيرات السعودية

GMT 14:25 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

التاريخ والفكر: سوريا بين تزويرين

GMT 14:24 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

إنجاز سوريا... بين الضروري والكافي

GMT 14:22 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

ليبيا: لعبة تدوير الأوهام

GMT 14:21 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

عالية ممدوح

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

التراجع الذي يضرب مصر التراجع الذي يضرب مصر



إطلالات أروى جودة في 2024 بتصاميم معاصرة وراقية

القاهرة - عمان اليوم

GMT 13:56 2024 الثلاثاء ,17 كانون الأول / ديسمبر

نصائح سهلة للتخلص من الدهون خلال فصل الشتاء

GMT 16:04 2019 الخميس ,01 آب / أغسطس

تمتع بالهدوء وقوة التحمل لتخطي المصاعب

GMT 09:41 2019 الخميس ,01 آب / أغسطس

تعيش أجواء مهمة وسعيدة في حياتك المهنية
 
syria-24

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

omantoday Omantoday Omantoday Omantoday
omantoday omantoday omantoday
omantoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
oman, Arab, Arab