ربيع الجنرالات

ربيع الجنرالات

ربيع الجنرالات

 عمان اليوم -

ربيع الجنرالات

غسان شربل

كانت الميادين تعج بالمساكين. أقصد بالشبان الأبرياء الحالمين. عثروا على نافذة وتدفقوا منها. قتلوا الخوف الذي بدد اعمار اهاليهم تحت وطأة الفقر والقهر. تعبوا من الخبز الصعب والمياه الملوثة. من الإقامة في بيوت تشبه المقابر. ومن تسوّل الوظائف على أبواب الفاسدين. من أسنان ضابط المخابرات وشاربيه. ومن شراهة بارونات الأمن والحزب. ومن صورة «القائد التاريخي» تهاجمهم حتى في مناماتهم. من الرجل الذي يتكرر ويتكرر. من أوامره ونصائحه. من الذل الغامر. كأنه يستضيفهم في مزرعته ومن حقه ان يطردهم من المكان والزمان معاً. القائد الذي ينام في القصر وموسوعة «غينيس» معاً.
كانت الميادين تعج بالمساكين. انتفضوا ضد العفونة والموت. رفعوا شارة النصر وارتكبوا هتاف «الشعب يريد». تهوروا في احلامهم. بينهم من تحدث عن الديموقراطية. ودولة المؤسسات. وحكم القانون. وتداول السلطة. وحقوق الإنسان. والشفافية. وبينهم من تحدث عن مغادرة الكهوف. والمدارس التي لا تنجب غير جحافل المكفوفين وأنصاف الأميين. والجامعات التي لا ترتكب إلا المذعورين من العصر والراغبين في الانفجار به.
كانت الميادين تعج بالمساكين. وزعموا ان جدار الظلم والظلام قد تداعى. وأن سقوطه أشد دوياً من سقوط جدار برلين. وأن الأمة ستفر من العتمة الطويلة. وأن الشمس ستجتاح السراديب. وأن الذليل المزمن سيخرج الى الضوء. أسوة بأي مواطن آخر في القرية الكونية.
سموه «الربيع» وصدقنا. وقلنا تخالطه بعض الالآم. على غرار ما عاشته اوروبا في مراحل سابقة واستنتجت منه قيم الكرامة والحرية واحترام الفرد والحقوق والتعايش والمسؤولية والمحاسبة والتنمية. ظهرت تربتنا غير جاهزة واستسلمت سريعاً للقوى المتربصة. تلقفت القوى الكامنة الفرصة وتقدمت. فرضت لونها على الساحات والشعارات. حرفت مسار النهر. وأتاحت لها قدراتها المالية والتنظيمية أن تسرق الأحلام وحتى فرصة صناديق الاقتراع. بدت اللعبة قاتلة. نهرب من رجل مستبد ونقع في قبضة فكرة مستبدة. والفكرة أخطر من الرجل لأنها تبني مؤسسات الظلام وترسخها.
كان اسمه «الربيع» ولكن من قتل «الربيع»؟
لنترك جانباً التجربة التونسية المختلفة على الأقل حتى الآن. أفادت من خصوصية بفعل ارث عقود ماضية ومستوى التعليم والانفتاح على لغات أخرى وتمسك المرأة بمكاسبها وحقوقها. أي قراءة هادئة للمسارح الأخرى تظهر ان المتشددين قتلوا «الربيع» خلال محاولتهم الاستيلاء عليه.
يمكن هنا الحديث عن تطورين قاتلين: الأول تجربة «الإخوان» في مصر والثاني مسارعة «القاعدة» والمقاتلين الجوالين الى اقتحام مسارح «الربيع» والتحصن في الدول التي انهارت أنظمتها او تصدّعت.
لا مبالغة في القول إن التجربة الكبرى كانت في مصر وإن المعركة كانت وتبقى فيها. لا أعرف كيف سيستقبل محمد بديع وخيرت الشاطر ومحمد مرسي نتائج الانتخابات الرئاسية؟ وكيف سيقرأون الأرقام التي يُرجح أن تعطي المشير عبد الفتاح السيسي شرعية انتخابية تضاف الى الشرعية الشعبية التي حازها حين تدفق ملايين المصريين في حزيران (يونيو) الماضي ضد حكم مرسي وبرنامج «الإخوان»؟. كنت في القاهرة في تلك الأيام وشممت رائحة الخوف العميق التي سبقت «الثورة الثانية» أو «الموجة الثورية الجديدة». وأنا هنا أستعير التسميات.
كان من المستحيل ان يفعل السيسي ما فعله في تلك الأيام لو لم يسبقه الناس الى الشارع. فزمن الانقلابات القديمة انقضى ثم أن أميركا كانت تراهن على أن يؤدي وجود الإسلام السياسي المعتدل في الحكم الى احتواء ظاهرة «القاعدة» وأخواتها. لا يمكن اتهام الخارج بالوقوف وراء ما حدث. سبب الموجة خوف قطاع واسع من المصريين على هويتهم وتماسك دولتهم ومجتمعهم واستقرارهم وشعورهم بأن الانتظار يعني المزيد من الانحدار في اتجاه الانتحار. وما كان الجيش ليجرؤ على ازاحة رئيس منتخب لولا شعوره انه يترجم بتحركه إرادة أكثرية المواطنين.
أطل المتشددون في ساحات «الربيع العربي» ودمغوه بلونهم. وضاعف ظهور «القاعدة» والمقاتلين الجوالين من الخوف. وقعت المنطقة في «ربيع المتشددين». برعت الأنظمة في توظيف هذه المخاوف. بدت الجيوش كأنها الملاذ الوحيد للقوى المذعورة من «ربيع المتشددين». استعادت الجيوش فرصة كانت اعتقدت انها خسرتها تماماً. شعر العربي العادي أن «ربيع الميادين والمساكين» مات. وأن عليه أن يختار بين «ربيع المتشددين» و»ربيع الجنرالات» ولكل منهما ثمن لا بد من دفعه. في هذا السياق يمكن فهم ما تعيشه ليبيا حالياً ومغزى النداءات التي يطلقها اللواء المتقاعد خليفة حفتر. النظام اليمني يتكئ اليوم على جنرالاته. النظام السوري يتكئ على جنرالاته وجنرالات حلفائه. ساهمت أخطاء «الإخوان» وارتكابات «القاعدة» في إعادة الأولوية الى ملف الأمن والاستقرار ومهّدت الطريق لـ «ربيع الجنرالات». لم تعد سراً هوية من قتل «الربيع».

 

 

omantoday

GMT 14:29 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

الثكنة الأخيرة

GMT 14:28 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

سوريا... هذه الحقائق

GMT 14:27 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

في أنّنا بحاجة إلى أساطير مؤسِّسة جديدة لبلدان المشرق

GMT 14:26 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

مخبول ألمانيا وتحذيرات السعودية

GMT 14:25 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

التاريخ والفكر: سوريا بين تزويرين

GMT 14:24 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

إنجاز سوريا... بين الضروري والكافي

GMT 14:22 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

ليبيا: لعبة تدوير الأوهام

GMT 14:21 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

عالية ممدوح

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

ربيع الجنرالات ربيع الجنرالات



إطلالات أروى جودة في 2024 بتصاميم معاصرة وراقية

القاهرة - عمان اليوم

GMT 13:56 2024 الثلاثاء ,17 كانون الأول / ديسمبر

نصائح سهلة للتخلص من الدهون خلال فصل الشتاء

GMT 16:04 2019 الخميس ,01 آب / أغسطس

تمتع بالهدوء وقوة التحمل لتخطي المصاعب

GMT 09:41 2019 الخميس ,01 آب / أغسطس

تعيش أجواء مهمة وسعيدة في حياتك المهنية

GMT 22:59 2019 الأحد ,15 أيلول / سبتمبر

اهتمامات الصحف الليبية الأحد
 
syria-24

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

omantoday Omantoday Omantoday Omantoday
omantoday omantoday omantoday
omantoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
oman, Arab, Arab