مع أمينة فى حوار ساكت

مع أمينة فى حوار ساكت

مع أمينة فى حوار ساكت

 عمان اليوم -

مع أمينة فى حوار ساكت

بقلم: جميل مطر

سألت، وما زلت أسأل، إن كان ما أحكيه الآن وأنا فى هذا العمر عن أشياء رأيتها وأنا طفل لا يتجاوز السنتين من العمر، نابعا بالفعل عن ذاكرة أم هو تركيب مختلق لحكاية باستخدام تفاصيل كانت تروى أمامى فى مراحل أخرى. يعنى أكون مثلا قد سمعت وأنا فى السابعة من عمرى من أهلى أنهم كانوا يضعوننا نحن الرضع أو أكبر قليلا فى قلوب أو بطون مشربيات البيت المطلة على أحد أهم شوارع الجمالية وأكثرها ازدحاما بالمارة والباعة المتجولين. يتركوننا هناك بالساعات مطمئنين إلى أننا حيث وضعنا لن نسبب إزعاجا أو قلقا لأهل البيت وضيوفهم. الاحتمال قائم أن أكون قد اخترت عن عمد وإصرار الحكاية المختلقة لما فيها من رومانسية أو غرابة. المثير فى هذا الاحتمال أننى تمسكت به أمام المتشككين فى روايتى وبخاصة ما ورد فيها عن مصلين فى جلاليب بيضاء يخرجون من المسجد وعن بائع «بليلة» يقف بعربته على الرصيف المقابل.

 • • •

تأتى أمينة، ابنة العام أو أقل  وأصغر الحفيدات، إلى بيتى صباح كل يوم جمعة. تأتى متأخرة عن بقية العائلة بحجة أنها تصحو مبكرا وتعود لفراشها بعد تناول افطارها لتستكمل النوم. تدخل دائما لتعلن انبهارها بشىء ما أو بأحد ما. زحمة الصالون الذى أجلس فيه ربما كانت سبب الانبهار. رأيتها مرارا وهى تمر بعينيها على كل الوجوه مرتين على الأقل قبل أن تقرر لمن تلقى بنفسها فى أحضانه. ثوانٍ معدودة تقضيها فى هذا الحضن يعقبها البحث عن شخص آخر بين المرحبين بوصولها فاتحا ذراعيه لها. ينتهى الأمر بتمردها على كل الحاضنين معلنة رغبتها أن تقف على ساقيها، وما زالتا فى سن التحدى المختلط بالارتعاش. على الفور تتحول القاعة إلى وضع طوارئ استعدادا لحماية أمينة المبتهجة بما حققت والدفاع عن الأشياء القابلة للكسر.

• • •

تقف قليلا باحثة عن سند يساعدها على الانتقال خطوة نحو شخص أو شىء ثم نحو شخص أو شىء آخر. ثم تجلس وفى نيتها إعادة فحص الوجوه المحيطة بها. عند هذه اللحظة نتبادل، هى وأنا، النظرات. تنظر إلى ناحيتى نظرة تساؤل. هذا الجالس عند آخر طرف كنبة الصالون ليس كبقية الناس الذين تزدحم بهم الغرفة. «لم يتحرك كثيرا منذ وصولنا. لم ينهض لاستقبالى ولم يفتح ذراعيه عارضا الحضن الذى يعرضه غيره من الأهل وأتمناه أنا. هو أيضا الشخص الوحيد فى الحجرة الذى لا يحمل شعرا على رأسه. يجلس فى نفس مكانه لا يبدله وعند الغداء يجلس على رأس المائدة، ساعتها لا أحد يعرض حضنا إلا الأطفال الأكبر منى العازفين عن الأكل والراغبين فى تدليلى والتعامل معى تعاملهم مع كائن فريد».

• • •

أحيانا وهى جالسة أمامى فى حجر أمها أو غير أمها أكتشف أنها تنظر ناحيتى وتبتعد بنظرتها فى حال التقت نظراتنا. تريد ألا أراها وهى تنظر ناحيتى، أو هذا ما تخيلت. مرة أخرى أجد نفسى متأثرا بحكايتى مع المشربية، أتخيل أنها وهى طفل رضيع أو ناهزت العام الأول من عمرها إنما تدرك تماما ما يحدث حولها، وأنها، وهو الأهم، تستوعبه وتدقق فيه وتختار منه ما تحتفظ به فى خزائن ذاكرتها، خزائن هى فى طور التكوين أو التدريب والتأهيل. من خلالها، أقصد من خلال هذه الذاكرة، يتعرف الطفل الرضيع على أمه التى ترضعه. ومن خلال ما يتذكره عن الجوع وما يتسبب فيه من ألم يأتى بكاء الطفل وصراخه ساعة جوعه كرد فعل لا يقل عنفا عن عنف الجوع.

• • •

قضيت وقتا ممتعا أراقب تصرفات أمينة إزاء مواقف متنوعة. اكتشفت وأظن أننى كنت على حق عندما قررت أنها تتألم حين تشعر بالإهمال. إهمالها كليا فى أوقات انشغال الكبار ببعضهم البعض أو بعروض التلفزيون أو رسائل المحمول أو جرس الباب. أشعر كما لو أن هذه الطفلة لا تريد شريكا لها فى حب الآخرين ولا حتى فى قسط ولو بسيط من اهتمامهم. تود لو سألتها إن كان هذا الشعور يعكس رغبة فى تملك أم خوف من الانفرادية والانعزال أم عدم ثقة فيما يخفيه المستقبل. سوف تجيبك بأنها منبهرة بهذه المخلوقات انبهارها بكل ما يأتى به الضيوف من دمى ولعب متنوعة الشكل والألوان.

• • •

ذهب ظنى فى وقت من الأوقات إلى أن أمينة ككل الأطفال الرضع إنسان بماض قصير تجسده ذاكرة حية. هذه الذاكرة، أى هذا الماضى، هو الذى يترجم لها الجوع ألما والبكاء عند الجوع نفيرا وإنذارا لمن يتصادف وجوده ولا يبالى، الجوع هو الذى يقودها إلى مصدر طعامها، وفى الغالب إلى أمها. أذكر بهذه المناسبة أن مصادر طعامى وأنا فى عمر الرضاعة كانت متعددة ومنها خالاتى وجارتنا المسيحية التى أرضعتنى مع ابنتها، وكثيرا ما حملتنى إلى كنيستها لأحصل على بركة القسيس وصلواته لأجل شفائى. هل حقا أذكر أننى كنت طفلا كثير البكاء والصراخ أم أننى سمعت من الأهل والجيران هذه الحكاية ضمن حكايات أخرى عن طفولتى ومراهقتى منها حكايات نهمى للرضاعة وزيارة الكنيسة وتعدد مصادر إطعامى وقلة ساعات نومى وصوت صراخى وتناوب الجارات على تهدئتى بحملى والمشى بى فى الشارع بالليل.

• • •

صدقونى أننى بسبب تجربتى الخاصة مع ذاكرة الطفولة أجد نفسى فى حضرة الرضيعة أمينة أتصرف بحرص ومنتبها إلى أكون دائما على مستوى الجد الوقور.

دليلى على أن أمينة سوف تتذكر وقائع من زمن رضاعتها هو أن نصيب الماضى البعيد فى ذاكرتى أكثر ثراء ووضوحا من نصيب الماضى الأقرب. أضرب مثلا. تابعت بكل انتباه واهتمام أكثر التفاصيل المتعلقة بالقمة العربية التى انعقدت بالمنامة قبل أيام قليلة، وعندما حان وقت الكتابة فى الموضوع، أى بعد يومين من انتهاء أعمال القمة، اكتشفت أن بعض المعلومات التى حفظتها فى ذاكرتى ضاعت وبعضا آخر تشككت فى دقته فما كان منى إلا أن لجأت لأصدقاء حضروا المؤتمر، سألتهم وجددت بما صرحوا ما اختفى أو تآكل من ذاكرتى فى أيام قليلة. حدث هذا بينما انطلقت بذاكرة متوقدة وذهن حاضر أقارن هذه القمة الأخيرة بتفاصيل دقيقة لأول قمة شاركت فى الإعداد لها وحضرتها فى الدار البيضاء فى منتصف الستينات، أى قبل ستين عاما أو أكثر.

 

omantoday

GMT 14:29 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

الثكنة الأخيرة

GMT 14:28 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

سوريا... هذه الحقائق

GMT 14:27 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

في أنّنا بحاجة إلى أساطير مؤسِّسة جديدة لبلدان المشرق

GMT 14:26 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

مخبول ألمانيا وتحذيرات السعودية

GMT 14:25 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

التاريخ والفكر: سوريا بين تزويرين

GMT 14:24 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

إنجاز سوريا... بين الضروري والكافي

GMT 14:22 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

ليبيا: لعبة تدوير الأوهام

GMT 14:21 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

عالية ممدوح

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

مع أمينة فى حوار ساكت مع أمينة فى حوار ساكت



إطلالات أروى جودة في 2024 بتصاميم معاصرة وراقية

القاهرة - عمان اليوم

GMT 13:56 2024 الثلاثاء ,17 كانون الأول / ديسمبر

نصائح سهلة للتخلص من الدهون خلال فصل الشتاء

GMT 20:41 2020 السبت ,05 كانون الأول / ديسمبر

يوم مميز للنقاشات والاتصالات والأعمال

GMT 17:31 2020 الجمعة ,28 شباط / فبراير

يولد بعض الجدل مع أحد الزملاء أو أحد المقربين

GMT 14:50 2019 الثلاثاء ,02 إبريل / نيسان

حافظ على رباطة جأشك حتى لو تعرضت للاستفزاز

GMT 06:18 2019 الإثنين ,01 تموز / يوليو

تنتظرك أحدث سعيدة خلال هذا الشهر

GMT 22:59 2019 الأحد ,15 أيلول / سبتمبر

اهتمامات الصحف الليبية الأحد

GMT 12:27 2019 الخميس ,05 أيلول / سبتمبر

السعودية تستضيف نزال الملاكمة الأهم هذا العام

GMT 16:04 2019 الخميس ,01 آب / أغسطس

تمتع بالهدوء وقوة التحمل لتخطي المصاعب
 
syria-24

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

omantoday Omantoday Omantoday Omantoday
omantoday omantoday omantoday
omantoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
oman, Arab, Arab