كأسُ أمى وابتسامةُ العالم

كأسُ أمى.. وابتسامةُ العالم!

كأسُ أمى.. وابتسامةُ العالم!

 عمان اليوم -

كأسُ أمى وابتسامةُ العالم

بقلم: فاطمة ناعوت

اليوم ٥ سبتمبر فى التاسعة مساءً، سوف تموت أمى، ولا شىء فى الحياة سيظلُّ على حاله. سوف تكتسى الأشياءُ بغمامة رقيقة من الإعتام، فتصيرُ الألوانُ باهتةً لا إشراق فيها. لكنَّ ثمة شيئًا إيجابيًّا سوف يحدثُ رغم هذا. شىءٌ رحيم. شىءٌ مُطَمْئِن. شىءٌ مريح. اختفاءُ الخوف من رحيلها. لأنها رحلت.

أرحمُ ما فى موت الأمّهات، أنهنّ لن يمُتن مرّةً أخرى. تموتُ الأمهاتُ مرةً واحدة، فقط، وينتهى الأمر. هو مُرٌّ علقمٌ تتجرّعه كأسًا واحدةً جَرعةً واحدةً، ثم يزولُ الرعبُ السابقُ له، وتستمرُّ المرارةُ اللاحقةُ له. سيدرك كلامى مَن يرتبط بأمّه كثيرًا، حيث هى الصخرةُ والسندُ والحضنُ والملاذ. هذا الإنسانُ يظلُّ يعيشُ حالاً دائمة من القلق من فكرة فَقدِ أمّه. ولا يتوقفُ ذاك القلقُ إلا حين تذهبُ الأمُّ إلى فردوس الأمهات، فيتحرّرُ من الخوف. تلك هى الرحمةُ الوحيدة فى موت الأمهات.

يوم غدرتنى «سهير» وغادرتنى قبل سنوات، كتبتُ فى زاويتى هنا بجريدة «المصرى اليوم» مقالًا عنوانه: «صوتُ أمى لا يطيرُ مرّتين». واسيتُ فيه نفسى بأن الرعبَ من فكرة «فقد أمى»، قد رحل مع رحيلها. فقدتُها وانتهى الأمرُ ولن أفقدها مجدّدًا. فلا أحد يموتُ مرتين. منذ طفولتى وأنا أعيش ذلك القلق: «ماذا لو اختفت ماما؟». فقد كانت السندَ الوحيد لى فى هذا العالم.

ولكن، بعد مرور بضعة أيام على رحيلها، سرعان ما اكتشفتُ الخدعةَ التى واسيتُ بها نفسى، إذْ أيقنتُ أن أمى لم تمُت مرةً واحدة كما أوهمتنى، بل تموتُ كلما احتجتُ إليها فلا أجدها حولى. كلما رفعتُ الهاتفَ لأكلمها، ولا ترد، كلما طُفتُ ببيتها ولا أجد سيارتها البيضاء العجوز، كلما رفعتُ عينى نحو شرفتها وأبصرتُها مغلقة. كلما داهمتنى مشكلةٌ، أركضُ إليها، فأكتشفُ أنها لم تعد هناك!! وأتجرعُ كأسَ فقدها من جديد.

بعد هذا الكشف الحزين اعتذرتُ لنفسى وللقراء بمقال حزين عنوانه: «أمى تموتُ كلَّ يوم»، نقضتُ فيه مقالى القديم وتساءلتُ: «هل اختفى صوت أمى للأبد؟»، وسألتُ الله يائسةً على استحياء أن يصنعَ معجزةً ما ويُعيد لى أمى! كان ضربًا من جنون الخيال أتوسّلُه لكى أقوى على مواصلة الحياة. فى ذلك اليوم حدث أمرٌ عجيب. وقعت عدّة مصادفات عبثية، لا تحدثُ إلا فى الأفلام الهندية؛ ووجدتُ فى حياتى فجأةً أمًّا رائعة منحتنى حنانًا لم أجرؤ على الحلم به. إنها هدايا الله المستحيلة التى يعجزُ العقلُ البشرىُّ المحدود عن تصوّرها أو استيعابها. نطلبُ من الله شيئًا عصىَّ المنال ونحن ندرك فى لا-وعينا أنه مستحيل، فيمنحُنا اللهُ ما يفوق أحلامَنا. سنواتٍ طوالاً، منحتنى تلك الأمُّ الروحية ما يصعُب حكيه. كانت السندَ والرحمةَ والفرحَ والحُبَّ والرعاية، ورقصتْ على لسانى من جديد أجملُ الكلمات وأشهاها: «ماما». وبعد سنوات من السلوى، رحلت تلك الأمُّ الطيبة، وتذوَّقتُ كأسَ اليُتْم من جديد. وتعلّمتُ أن أقسى وأقصى ألوان الحرمان يأتى بعد المنح.

ولكى أوقفَ نزفَ هذا المقال الحزين، وكاعتذار لك أيها القارئ الكريم، إذ جعلتك تتذوق معى مرارةَ الكأس، دعونى أختتم المقالَ بشىء مرح من طرائف أمى، السيدة الجادّة التى كانت قلّما تبتسم.

فى أحد صباحات عام ٢٠٠٦، استيقظتُ على رنين الهاتف، وإذا بأمى تصرخ: (العالم كلّه ضدك؟!!!! يا نهار أسود!!!! كتبتى إيه؟!) انتفضتُ من السرير فزعةً؛ إذْ أعلمُ عن أمى الجديّة وعدم المزاح. (مش فاهمة يا ماما بتتكلمى عن إيه؟ إهدى طيب وفهّمينى!) أجابت بهلع: (مانشيت فى «الأهرام» النهارده بيقول: «العالم يُحذّر من كتاب فاطمة ناعوت الجديد»!). وبدأتْ فى قراءة متن الخبر بصوت مُتهدِّج: (صدر مؤخرًا للشاعرة «فاطمة ناعوت» كتابٌ جديد بعنوان «الكتابة بالطباشير».

ويقول المفكرُ الكبير «محمود أمين العالم» فى تصدير الكتاب: «أيها القارئ العزيز، حـذارِ أن تصدِّقَ عنوانَ هذا الكتاب! فكتابتُه لم تتحقق، كما يزعم عنوانُه، بالطباشير! فهى ليست بالكتابة السَّطحية التى يمكن أن تُمسح أو تُنسى بمجرد مغادرتِها.

بل هى بالحق كتابةٌ بالحفر العميق فى حقائقَ وظواهرَ تجاربنا الثقافية القومية والإنسانيّة، التراثية والمعاصرة...»). وبعدما تحققت أمى من أن الأستاذ يمتدحُ كتابى، راحت تضحك من قلبها، ثم قالت: (النهارده هاقرأ الكتاب). أغفل المانشيت وضع الكسرة تحت حرف «اللام»، فقرأتها أمى: «العالَم، بدلًا من العالِم». وظنّت أن العالم ضدى! ألم أقل لكم إن «المقال لا يُقرأ من عنوانه»؟! رحم الله أمى والعالم، أستاذى العظيم.

ملحوظة: (تعمدتُ وضع عنوان مراوغ للمقال، لكى أثبتَ الفكرةَ التى طرحتُها فى مقالى يوم الاثنين الماضى: «المقالُ» لا يُفهم من عنوانه. «الكتابُ» لا يُقرأ من عنوانه. «الفيلم» لا يُشاهَدُ من عنوانه).

 

omantoday

GMT 14:29 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

الثكنة الأخيرة

GMT 14:28 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

سوريا... هذه الحقائق

GMT 14:27 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

في أنّنا بحاجة إلى أساطير مؤسِّسة جديدة لبلدان المشرق

GMT 14:26 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

مخبول ألمانيا وتحذيرات السعودية

GMT 14:25 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

التاريخ والفكر: سوريا بين تزويرين

GMT 14:24 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

إنجاز سوريا... بين الضروري والكافي

GMT 14:22 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

ليبيا: لعبة تدوير الأوهام

GMT 14:21 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

عالية ممدوح

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

كأسُ أمى وابتسامةُ العالم كأسُ أمى وابتسامةُ العالم



إطلالات أروى جودة في 2024 بتصاميم معاصرة وراقية

القاهرة - عمان اليوم

GMT 13:56 2024 الثلاثاء ,17 كانون الأول / ديسمبر

نصائح سهلة للتخلص من الدهون خلال فصل الشتاء

GMT 16:04 2019 الخميس ,01 آب / أغسطس

تمتع بالهدوء وقوة التحمل لتخطي المصاعب

GMT 09:41 2019 الخميس ,01 آب / أغسطس

تعيش أجواء مهمة وسعيدة في حياتك المهنية

GMT 22:59 2019 الأحد ,15 أيلول / سبتمبر

اهتمامات الصحف الليبية الأحد

GMT 21:26 2020 الثلاثاء ,30 حزيران / يونيو

كن قوي العزيمة ولا تضعف أمام المغريات

GMT 12:27 2019 الخميس ,05 أيلول / سبتمبر

السعودية تستضيف نزال الملاكمة الأهم هذا العام

GMT 19:24 2021 الإثنين ,01 شباط / فبراير

التفرد والعناد يؤديان حتماً إلى عواقب وخيمة
 
syria-24

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

omantoday Omantoday Omantoday Omantoday
omantoday omantoday omantoday
omantoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
oman, Arab, Arab