عن «البيك» كاتبًا للأمة

عن «البيك» كاتبًا للأمة..

عن «البيك» كاتبًا للأمة..

 عمان اليوم -

عن «البيك» كاتبًا للأمة

طلال سلمان

الفكر لا يموت، فكيف ترثي منح الصلح، ولاّدة الأفكار البكر التي أضاءت في دنيانا، على امتداد سبعين عاماً أو يزيد، فقهرت الطائفية والعنصرية والكيانية بالوطنية والعروبة وروح العصر.. والظرف الذي تميّز به «البيك» في حضوره كما في الغياب.

والثقافة، بمعناها المعرفي الواسع، والتي تشمل إلى الثوابت التفاصيل وتفاصيل التفاصيل، لا تموت، فكيف تنعى من ثقف مجاميع من متخرجي الجامعات العريقة، فضلاً عن العامة، من القراء الذين يعرفونه بأسلوبه المفرد، وهو من ساهم في تعريفهم إلى أنفسهم وتاريخ أمتهم وقدرتها على تحرير إرادتها وعلى التقدم في اتجاه دور قيادي تستحقه بجدارتها قبل موقعها الجغرافي الحاكم، وقبل ثروتها الخرافية إذا ما استخدمتها في صياغة قدراتها لصنع غدها الأفضل؟!

هو بيروت ـ الأميرة، حاديها والمؤذن ليقظتها ونهوضها إلى دورها الاستثنائي في خدمة أمتها، بكفاءاتها متعددة المجال، لا سيما في الثقافة والصحافة والسبق إلى معرفة الغرب (والشرق)، وفي الابتكار والتجدد واحتضان المبدعين وتنسيبهم إليها بشرف مساهمتهم في تميزها.

بل هو «لبنان» الذي يفترض فيه القدرة على أن يتجاوز بدوره جغرافيته، وبمعارفه أمراض طبقته السياسية التي تعيش بالطائفية وعليها، وأن يقوم برسالته المميزة فيخدم حركة تقدم أمته نحو غدها الأفضل.

هو «البيك» الذي استنهض الجماهير وعزز ثقتها بنفسها، فكان حادي الاستقلال مع العروبة لا عنها، ومطلق نفير الثورة الفلسطينية مع التحذير من أن يغلب فن تدبير المال والسلاح النزوع إلى الجهاد من أجل تحرير الأرض المقدسة. هو مقاتل التخلف في ظل التجزئة بالدعوة إلى التقدم بتوحيد قدرات الأمة على اللحاق بالعصر واحتلال مكانتها اللائقة بتاريخها.
هو واحد من رواد حركة النهوض العربي في طلب الحرية والاستقلال والوحدة... هو «البعث» من دون حزبه، وهو «القومية العربية» من دون تنظيمها، وهو الوطنية من دون التحزب لطائفية المناصب والمواقع القيادية.

وهو العالم العلامة الذي يصعب أن تباغته بالمعلومات عن بلد أو تنظيم أو كاتب أو مفكر، فإن داهمته بالتوقيت رد عليك بتعمقه في التاريخ، وأنزل ما حملته إليه في سياقه فألزمك بأن تستمع إليه لتعرف كيف تحلل الحدث وكيف تتوقع التداعيات ولا تباغتك النتائج.

كتب بأقلام كثيرة، وكان القراء يقرأون فيعرفون، ولكنهم يشاركونه التواطؤ، فيهنئون صاحب التوقيع ويتلقون شكره مبتسمين.. وفكَّر لكثيرين، وكان يسعده أن تنجح الأفكار من غير أن يتوقف أمام ادّعاءات من نقلها أنهم أصحابها..
عرف العرب بتاريخ صراعاتهم مع أنفسهم ومع جيرانهم ثم مع أعدائهم، ومن خلال فهمه للماضي انطلق يبشّر بمستقبل أفضل، شرط أن يعرف العرب أنفهسم وأن يحسنوا تقدير موقعهم على خريطة الصراع وأن يقدروا دور جغرافيتهم قبل ثرواتهم وأن يغادروا تخلفهم لأنهم قادرون على التقدم إلى غدهم الأفضل.

.. ولقد عرفتُ منح الصلح مع قبول انتسابي إلى مهنة الصحافة عبر بوابة مجلة «الحوادث» التي أعاد إطلاقها الراحل سليم اللوزي أواخر الخمسينيات.

كان يأتي المجلة في مكاتبها البسيطة في شارع عبد الرحمن الحوت، خلف قصر هنري فرعون، وغير بعيد عن «القصر الجمهوري»، وكان آنذاك في القنطاري... يشارك في اجتماعات التحرير، تطوعاً، مع شفيق الحوت ونبيل خوري والرسام نيازي جلول فيطلق أفكاراً للمتابعة، في السياسة كما في الثقافة وصولاً إلى الفن، ويكتب الافتتاحية، أحياناً، ويتطوع لتصحيح بعض المعلومات التاريخية أو لترشيد بعض الاستنتاجات والتحليلات بعمق معرفته لأحوال البلاد العربية في ماضيها والحاضر، وأهمية موقعها وبالتالي دورها في العالم.

كذلك فقد كتب لمجلات وصحف عديدة وبأقلام كتاب مشاهير وقادة أفذاذ وأنطق من لا يعرف العربية، وفضح الانعزالية والطائفية السياسية مدمرة الأوطان.

ولقد واكبته وواكبني وأنا أتنقل بين «الحوادث» و«الأحد» و«الصياد»، حتى استقررت في «السفير» وهو يتابعني ويرشدني وينبّهني إلى ما لا يجوز أن أغفله أو أنساه، ويحذرني من الغلو في المعارضة إلى حد المخاصمة والمقاطعة: أكتب معترضاً بعنف بغير أن تخجل ممّن عارضت إذا ما التقيته غداً، وبغير أن تضطر إلى الاعتذار عن تجاوزك الاعتراض إلى التشهير والإهانة.

ولقد كتب في «السفير» عن «المارونية السياسية» بمنطق الوطني عروبي العقيدة وليس بمنطق الشريك في الإسلاموية السياسية.

تعلمتُ من منح الصلح الكثير، في السياسة كما في الثقافة، وفي المعرفة بالبلاد والناس... كما تعلمت احترام اللغة وعدم استخدامها في ما يسيء إليها. فهو كان اللبناني من داخل عروبته وليس بالتبرؤ منها، وكان العربي بغير الانبهار بقائد أو حزب، وإن كان أسهم في تأسيس أكثر من حزب وجبهة.

وأعترف بزهو أنني قد أخذتُ منه وعنه الكثير من معارفي عن لبنان وسوريا والعراق وصولاً إلى اليمن عبر السعودية وإمارات الخليج، وعن مصر ومنزلتها المميزة ودورها الذي لا بديل منه في النهوض العربي لبناء الغد الأفضل، وعن أقطار المغرب العربي من ليبيا إلى موريتانيا، مروراً بتونس والجزائر والمغرب الأقصى.

لقد كان «العارفة»، بمعنى أنه كلي المعرفة بأمور العائلات وأنسابها، أحوال التاريخ السياسي للمنطقة وتقلباته، والانقلابات وصنَّاعها، وظل ينتظر «الثورة» مبشراً بها مؤكداً أنها لا بد آتية.

أما فلسطين فلقد عرّفني إلى تاريخ نضال شعبها، منذ وعد بلفور وحتى إقامة دولة إسرائيل بالقوة الغربية والتفريط العربي والاختلافات الداخلية، وكان منح الصلح «العربي» من دون تجاوز على لبنان، والفلسطيني مع الحرص على عروبة الثورة وطهارتها، والقومي من داخل معارضته النظام العربي الواحد!

على أن أعظم ما أخذته عن «البيك» هو الوعي بلبنان، موقعه الاستثنائي ودوره الخطير عربياً ودولياً، والذي يمكن أن يكون نعمة على العرب إذا ما أفادوا من ميزاته العديدة والاستثنائية، معتبرين أنه ـ وهو منهم ـ جسر التفاهم مع الغرب، وعقدة الوصل بينهم في خلافاتهم، وطليعتهم في مسيرة التقدم نحو الغد الأفضل.

لم يوقع منح الصلح ما كتب، وما أكثر ما كتب.. وكان جمهوره الواسع يتابع كتاباته البلا توقيع فيتعلم منها ويعرف ما خفي عليه من أسرار واقعها السياسي والتآمر على تقدمها ووحدتها.

ولقد اختار «البيك» لحظة غيابه، لأنه يرفض أن يصدق أن الأمة قد غابت وامَّحت تماماً وظل يبشر بقرب ميلادها الجديد.

omantoday

GMT 14:29 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

الثكنة الأخيرة

GMT 14:28 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

سوريا... هذه الحقائق

GMT 14:27 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

في أنّنا بحاجة إلى أساطير مؤسِّسة جديدة لبلدان المشرق

GMT 14:26 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

مخبول ألمانيا وتحذيرات السعودية

GMT 14:25 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

التاريخ والفكر: سوريا بين تزويرين

GMT 14:24 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

إنجاز سوريا... بين الضروري والكافي

GMT 14:22 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

ليبيا: لعبة تدوير الأوهام

GMT 14:21 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

عالية ممدوح

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

عن «البيك» كاتبًا للأمة عن «البيك» كاتبًا للأمة



إطلالات أروى جودة في 2024 بتصاميم معاصرة وراقية

القاهرة - عمان اليوم

GMT 13:56 2024 الثلاثاء ,17 كانون الأول / ديسمبر

نصائح سهلة للتخلص من الدهون خلال فصل الشتاء

GMT 09:32 2020 الجمعة ,30 تشرين الأول / أكتوبر

حظك اليوم الجمعة 30 أكتوبر / تشرين الأول لبرج القوس

GMT 09:41 2019 الخميس ,01 آب / أغسطس

تعيش أجواء مهمة وسعيدة في حياتك المهنية

GMT 22:59 2019 الأحد ,15 أيلول / سبتمبر

اهتمامات الصحف الليبية الأحد

GMT 04:47 2020 الإثنين ,02 تشرين الثاني / نوفمبر

حظك اليوم برج القوس الاثنين 2 تشرين الثاني / نوفمبر 2020

GMT 16:04 2019 الخميس ,01 آب / أغسطس

تمتع بالهدوء وقوة التحمل لتخطي المصاعب
 
syria-24

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

omantoday Omantoday Omantoday Omantoday
omantoday omantoday omantoday
omantoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
oman, Arab, Arab